قلت: إنه لا يتحدد - حسب افتراضي - من تلقاء نفسه، إنه يتحدد؛ لأنه بالضرورة ينجذب أو تنجذب أطرافه إلى أكوان بعيدة أخرى، بمعنى أن المادة الكونية كلها - من الذرات إلى المجرات - تتجاذب بنفس السرعة، بل وتقطع في انجذابها نفس النسبية من المسافة - إلى أن تصل إلى النقطة الحرجة فتنفجر متنافرة ثم تعود لتتجاذب، وهكذا.
فالقوة أو القانون الأساسي ليس شيئا من خارج الكون، ولكنه كامن داخله، التجاذب للتنافر.
قال: إنه احتمال وارد، بل هو في الحقيقة تفسيرنا نحن الكتاب، أو افتراضاتنا عما يجري داخل الكون ومادته، إن فكرة الكون نفسها هي تصورنا نحن عن الكون، إن فكرة جاليليو عن الكون كانت صحيحة في عصرها تماما، ولكنه لم يكن يملك الأدوات أو الأجهزة التي تمكنه من إثباتها عمليا والتأكد من صحتها، وصحة أن المادة تدور في حلقات وحول نفسها، ونحن الآن عائدون إلى تصورات أخرى عن الكون، وما الفن إلا تجسيد لتصورنا نحن عن هذا التصور.
قلت: لو أخذنا دورنمات حين بدأ يرسم ويكتب في أوائل بداياته أعوام 43، 44، 45، وأخذنا تصوره للكون، هل تغير هذا التصور؟
قال: أنا كنت أدرس الفلسفة، وكان اكتشافي للفيلسوف نقطة تحول في حياتي، فقد كان صاحب نظرية التلقي وصاحب نظرية التفرقة بين التفكير والوجود، وصاحب الرأي القائل بأن الإنسان يفكر في الكون مستعينا بالمفردات البشرية التي يراها ويحيا بها، وليس بالموجودات الحقيقية في الكون، بمعنى آخر هو لا يرى ولا يدرك حقيقة الكون، ولكنه «يتصوره» على هيئة أشياء يراها من حوله، وهكذا وصل إلى أن التفكير الرياضي والحسابي هو أنقى أنواع التفكير في الكون، فهي مجردات وأرقام (والأرقام أيضا مجردات) لا تحتك بالحقيقة من قريب أو بعيد، إن حقائق الطبيعة لا يمكن تجسيدها إلا الرموز الرياضية والرياضة فقط، وهذا في حد ذاته يحدد تلك الحقائق الكونية تحديدا كبيرا.
وواصل دورنمات قائلا: إن الحرية الحقيقية هي في إدراك محدودية القدرة البشرية على فهم الكون.
قلت: نعم، فلقد جعلت الصراع في مسرحيتي بين رغبة الإنسان العارمة في التحرر من النظام الكوني (السيد) وبين قدرته المحدودة على الفكاك من أسر هذا النظام نفسه؛ إذ لو فك منه تماما لفقد صفته البشرية ونظام وجوده.
قال: ولكن النظام ليس خارج الإنسان، إنه داخل الإنسان نفسه.
قلت: ولكن كنت أتحدث عن الوجود الإنساني في هيئة جماعة بشرية، فالإنسان لا يحيا بمفرده، ولا يوجد مكون من مكونات الكون بمفرده أبدا، حتى الذرات توجد في مجتمعات، ولا بد من نظام يحكم وجودها الجماعي.
قال: أنت تقول: إن الإنسان لا يمكن أن يعيش خارج نظامه الإنساني، وإن النظام لا يمكن أن يعيش خارج الإنسان، فكيف عالجت هذه المعادلة المستحيلة؟
Неизвестная страница