السعادة «كل» بسيط، ولا وجود لها في هذه الجزئيات الكاذبة التي ما تكاد تقبض على واحدة منها حتى تفلت منك الأخريات!
الخروج من الكهف «لديك إذن طبيعة السعادة الزائفة وسببها معا، فلتحول نظرتك الآن في الاتجاه المقابل ولسوف ترى لتوك السعادة الحقيقية التي وعدت بأن أبينها لك»، ولكي تكون جديرا باكتشاف مصدر هذا الخير الأسمى ينبغي، كما قال أفلاطون في محاورة «طيماوس»، أن نبتهل إلى الله، فبدون ذلك لا يستهل عمل ولا يشمر لأمر.
المخطط هنا أفلاطوني لا شك فيه، وتحويل النظرة عما هو زائف إلى ما هو حق، وإدراك أن الله هو الخير الأسمى، إنما يستند على صعود الروح في أسطورة الكهف الشهيرة في الكتاب السابع من «الجمهورية»، فصعود الروح، أو تربيتها، أشبه بصعود رجل من كهف مظلم كان قابعا فيه ومقيدا منذ الطفولة لا يملك أن يرى غير ظلال على الجدار،
10
وحين فكت قيوده انتقل خطوة خطوة إلى النور، حتى تمكن في النهاية من أن يرى الشمس نفسها - مثال الخير.
غير أن صعود الروح ليس مجرد عملية تربية، فهو أيضا عملية «تذكر» تنصهر فيها نظرية التذكر الأفلاطونية بمفاهيم أفلاطونية محدثة تتعلق بانطواء الروح على ذاتها واستضاءتها بنورها الباطن، من هنا كان تشخيص «الفلسفة» لحالة «بوئثيوس» هو «فقدان الذاكرة» أو «النسيان»؛ نسيان طبيعته الحقة، إنه ليعلم بالسعادة الحقيقية ، غير أن ذاكرته، كشأن غيره من الناس، كليلة غائمة، إن للروح نزوعا طبيعيا، وانتحاء فطريا، إلى الله، غير أنها كثيرا ما تحيد وتحبط في مسالك مضللة، ولكن ما هو إلا أن يشيح بنظرته عما هو باطل إلى ما هو حق حتى تتم له عملية التذكر ويصعد بروحه إلى الرحاب العلى، ويدرك أن الله هو الخير وهو السعادة، ويتعرف على وطنه الحقيقي الذي نسيه في معترك الحياة، فيهتف قائلا: «إنه هو ... هذا وطني، منه أتيت وفيه سأبقى ولا أبرح أبدا»، فإذا ما عن له أن يلقي نظرة على الأرض المعتمة من ورائه فلسوف يرى الحياة من منظور الأزل، ويرى الأشياء رؤية إلهية:
سيرى الطغاة الظالمين منفيين منبوذين لا مأوى لهم.
سيرى لذات الأرض وهمومها، وتقلبات الحظ وألاعيبه، كوميديا لا تحتمل إلا الضحك.
أما «الشر» - عفريت الفلاسفة وحجة الملحدين - فلن يرى له وجودا!
بين حرية الإرادة وسابق العلم
Неизвестная страница