الخير مثاب والشر معاقب
أرأيت إذن أي وحل تتمرغ فيه الرذيلة، وأي بهاء تتألق فيه الفضيلة؟ من هذا يتبين أن العمل الصالح لا يعدم الجزاء أبدا، والرذائل لا تعدم العقاب، والطريقة الصحيحة في النظر إلى هذا الأمر هي أن تعتبر الهدف المنوط بأي فعل هو هو ثوابه، تماما كما أن جائزة سباق العدو في الإستاد هي إكليل الغار الذي يجرى من أجله السباق، ولقد تبينا أن السعادة هي الخير ذاته الذي إليه يهدف كل عمل يؤدى؛ ولذا فإن الخير الخالص هو ثواب كل نشاط بشري، وحيث إن الخيرية لا يمكن أن تسلب من الأخيار، فإن الأفعال الخيرة لا تعدم جزاءها الحق، ومهما يمكر الأشرار ويكيدوا كيدا فإن إكليل غار الحكيم لن يسقط منه أبدا ولن يذوي.
وما كان لمكر الأشرار أن ينتزع من الأخيار مجدهم الخاص، فلو كان المجد الذي نزهى به مجدا مستعارا لاستطاع الآخرون، وبخاصة من أسبغه علينا، سحبه منا مرة ثانية، ولكن ما دام المجد يسبغه على المرء خيره وصلاحه فإنه لن يعدم جزاءه إلا إذا كف عن أن يكون صالحا.
وأخيرا، إذا كانت كل مكافأة إنما تنشد لأنها تعتبر خيرا، فمن يقول إن الذي وهب الخير والصلاح هو بلا مكافأة؟ تأمل مرة أخرى في «اللازمة»
corollary
التي نوهت بها عندما كنت أتحدث إليك منذ قليل، إذا كان الخير هو السعادة، فمن الواضح إذن أن جميع الأخيار ينالون السعادة بفضل كونهم أخيارا، وبما أننا اتفقنا على أن أولئك الذين ينالون السعادة هم إلهيون، فثواب الخير إذن هو ثواب يستحيل أن يبليه الزمن، ولا أن تسلبه أي سلطة في الأرض، ولا أن يعكره لؤم اللؤماء، وإذا كان الأمر كذلك، فلن يصح لأي عاقل أن يشك أدنى شك في العقاب المحتوم للأشرار، فالثواب والعقاب، شأن الخير والشر، ضدان، فالجزاء الذي نراه واجبا للأخيار لا بد من أن يوازنه عقاب مقابل للأشرار، فعقاب الأشرار إذن هو شرهم نفسه - الشر عقاب ذاته مثلما أن الخير ثواب ذاته.
والآن، لا يشك من يلقى عقابا أنه يلقى شرا ما، فإذا شاء الأشرار حقا أن يقيموا أنفسهم فما أحسبهم يرونها بمنجاة من العقاب وهم يلقون أسوأ الشرور جميعا - شرا لا يمسهم فحسب بل يتغلغل في عمق أعماقهم.
ثم انظر إلى العقاب الذي يلازم الأشرار من وجهة النظر المضادة، أي من وجهة نظر الأخيار، لقد عرفت منذ قليل أن كل ما هو موجود هو في حالة وحدة، وأن الخير نفسه وحدة، وترتب على ذلك أن كل ما هو موجود ينبغي أن نعتبره خيرا، يعني ذلك أن أي شيء يحيد عن الخير لا يعود موجودا، وأن الأشرار بذلك لا يعودون ما كانوه من قبل، إن شكل أجسادهم البشرية ما يزال يدلنا على أنهم كانوا بشرا؛ ولذا فلا بد أنهم فقدوا طبيعتهم البشرية عندما مالوا إلى الشر، ولما كان الخير وحده هو ما يمكن أن يعلو بالإنسان فوق بشريته، فإن الشر بالضرورة قمين بأن يتردى به إلى ما دون مستوى البشرية.
وعليه فلا يمكنك أن تعتبره إنسانا ذلك الذي مسخته رذائله، بوسعك مثلا أن تشبه الذي يسلب ويغتصب ويتحرق طمعا بالذئب، أما النزق العنيف الذي يكمن للناس وينقض عليهم غيلة فيشبه بالثعلب، أما الذي يرغي ويزبد ولا يكبح غضبه فسوف يقال إن به شرة الأسد، وأما المجفل الهياب الذي يرتاع وليس ما يدعو للفزع فسوف يعتبر كالأيل، والكسول البليد الغبي أليس يعيش عيشة الأتان؟ والنزوي المتقلب الذي لا يستقر على حال ألا يشبه العصفور؟ والمنغمس في الملذات المتمرغ في وحل الشهوات ألا يشبه الخنزير؟ ما يحدث إذن هو أن الإنسان حين يفقد خيريته ولا يعود إنسانا - أي لا يعود قادرا على السمو إلى الحالة الإلهية - فإنه يتدنى إلى مرتبة الحيوان.
أشرعة ملك إيثاكا،
Неизвестная страница