ضغطت بكوعيها على حافة المكتب، واعتصرت صدرها، وتقبضت عضلات زورها وحلقها في محاولة ثانية للنطق بلا جدوى، ليس لأنها لم تكن تجد ما تقوله، ربما لتزاحم ما تريد قوله، ربما الازدحام الخانق من ألفاظ السباب التي تحفظها والتي سمعتها وتحرجت طوال حياتها عن ذكرها، وأرادت لحظتها بمثل ما لم ترد به أي شيء خلال عمرها كله أن تقولها وتنطقها وترددها مثنى وثلاث ورباع.
وكادت تجن! وهذا الضغط الهائل المحتشد داخلها يأبى أن ينطلق أو يجد له منفذا لكأنه كابوس خانق لا يحدث لها في حلم، وإنما في واقع يجري أمامها، وكلما مضت ثانية تضاعف إحساسها بالرغبة العارمة في الانفجار، وتضاعف إحساسها بالقوى القاهرة الخفية التي تبقيها رغما عنها غير منفجرة، حتى صراخ الاستغاثة الذي يصدر من النائم، لم تكن تستطيعه، كل ما استطاعته أنها - من حلاوة الروح - وقفت فجأة كالملسوعة، وضمت قبضتين غريبتين كأنهما ليستا لها، وخبطت بهما سطح المكتب خبطة، وكأنما تقصد بها أن تحطم القبضتين وليس أن تدق المكتب.
وطوال هذا المشهد الذي برغم طوله اللانهائي الذي أحسته له، لم يكن قد استغرق بضع ثوان، في أثنائه كان الجندي منذ أن ألقى السؤال سائقا العبط على الهبالة يراقبها، راقب كل حركاتها غير الإرادية الأولى وهو لا يفهم، ثم وهو يشك، ثم وهو يخاف خوفا لا يعرف سببه، وسرعان ما تحول خوفه إلى رعب حين وجدها تفتح فمها عدة مرات دون أن يصدر عنه شيء أو صوت، ثم تحاول محاولات مستمرة مستميتة أن تبتلع ريقها بطريقة تبدو معها وكأن غصصا أخطبوطية خفية كثيرة تتزاحم وتسد حلقها حتى لتكاد تمنعها عن أخذ النفس أو إخراجه.
وما لبث أن تولاه الذهول حين وجد الخناق الخبيث يزايلها مرة واحدة وتبكي، بكاء غير عادي بالمرة، فهو لم يبدأ كالبكاء على هيئة انفعال يتطور إلى بكاء، بدأ فجأة دافقا غزيرا وتحت ضغط كالإناء المملوء إذا أصابه ثقب.
وجم الجندي وداخ وتاه وحاول أن يفعل شيئا، وعلى أقل القليل أن يتكلم، ولم يعجز، ولكنه وجد نفسه يوأوئ ويهوهو ويقول كلمات على هيئة حروف قاصدا أن تكون حروف استفهام، يحاول أن يعرف بها ما الخبر وماذا ألم بها؟
أما عبادة بك «الزبون» فقد جاء انزعاجه على هيئة حركات مضى يجمع بها أوراقه ويضعها، ثم يعود يخرجها من حقيبته الفاخرة وقد بدا أنه يستعد لمغادرة الحجرة.
وبنفس الغزارة الأولى رغم كل محاولاتها لإيقاف الدموع، مضت سناء تبكي بكاء بدا وكأن لا قوة هناك تقدر على إيقافه ... بكاء تحس له بأضعاف أضعاف سخطها على نفسها حين عجزت عن الرد والنطق، فقد كان البكاء أسخف تصرف ممكن أن تقوم به لحظتها، وكلما أدركت هذا وثارت عليه واستجمعت قواها لإيقافه، أحست بتصميمها وإرادتها تذوب وتتلاشى، ووجدت نفسها تمضي باكية سادرة في تصرف تحنق عليه حنقا لا تجد له ردا إلا بكاء آخر، لقد أحست أنها أهينت إهانة واضحة متعمدة مدبرة، إهانة بلغت بشاعتها حدا أخرسها وأعجزها تماما، وحين ذهب العجز والشلل وأوشكت أن تنطق وتنفجر، ها هي ذي لا تفعل إلا أن تبكي وتذرف الدموع كأي طفلة، كأي حمقاء معتوهة، تبكي؟ أيكون هذا موقفها من أخطر وأسفل إهانة وجهت لها في حياتها، بل حتى في خيالها لم يكن في حدود التصور المحض بإمكانه أن يحلم بشيء كهذا، فما بالك والإهانة لم تحدث في الخيال، وهي واقعة حقيقية لم تفرغ دقائق الزمن من تسجيلها بعد، والإهانة لم تكن فقط لأنها حضرت واقعة كهذه أو شاهدتها، أو حتى لمحاولات محمد الجندي إشراكها ولو بطريق غير مباشر فيها، الإهانة الحقيقية أنه لا بد قد وضع في اعتباره وهو يرسم خطته احتمالا شبه أكيد أنها من الممكن أن توافق، الإهانة الحقيقية هو ظنه شيئا كهذا فيها، وليست إهانة لشرفها فقط وكرامتها، وإنما الإهانة العميقة هي أن هذا كله وجه إليها من رجل، الإهانة الأعمق والأخطر أنها فتاة أنثى، وأن رجلا هو الذي ظن فيها هذا الظن، ربما لو كانت شابا وعوملت بتلك الطريقة لما جرحت هذا الجرح العميق، لاعتبرت أن ما حدث سبة أو تهمة عادية وجهت إليها ولردتها مضاعفة، ولكنها أنثى تحس بعمق أن الإهانة التي وجهت إلى شرفها هي في الحقيقة إهانة لأنوثتها، لشرفها كأنثى، وليس لشرفها ككاتبة أو كفتاة تعمل، إهانة ليس ردها الصفع والركل وكيل أقبح الألفاظ، فمهينها رجل ... الرجل لا يهمه أن يسب أو يشتم أو تصفعه سيدة، بل حتى إذا همه وأهانه فهي إهانة لا توجه لشرفه، قد توجه إلى شخصه أو مكانته، ولكنها أبدا لا تخدش شرفه ولا تجرحه هذا الجرح الغائر الدامي، ماذا تفعل وهي تحس بشرفها الأنثوي مهانا ومجروحا، وهي عاجزة حتى عن الرد كرجل أهانه رجل؟ عن السب حتى أو الصفع؟ أهناك ما يقتل من الغيظ أكثر من أن تجد نفسها في موقف المعتدى على شرفها، الحرة في رد الاعتداء والعاجزة في نفس الوقت عن رده؟ بكاؤها الشيء الوحيد الذي أفلت منها يكاد يعميها غيظا وسخطا! فرد الإهانة التي تلحق بالشرف، ردها بمجرد البكاء إهانة في حد ذاته إهانة صادرة منها هي، وأي مأساة أن ترد عدوان غيرك وإهانته لك بأن تتولى أنت الآخر إهانة نفسك أمامه، أي عار!
أخيرا جدا استطاعت سناء أن توقف سيال الدموع، أوقفته بيدها وأصابعها وقد أعياها البحث عن منديلها الصغير، وكأنما تآمر هو الآخر ليزيد من سوء وضعها ومهانتها، ولم تكن تتصور أن باستطاعة إنسان أن يكون صفيقا إلى حد أنه - بعد ما فعل ما فعل - يتقدم منها وقد أدرك حيرتها وبحثها اليائس مقدما منديله، وربما كانت هذه الحركة منه هي القشة التي قصمت ظهر غصصها الحانقة المكتومة، وقد وجدت نفسها تقذفه بالمنديل وبما أمامها من دفاتر وأوراق وأقلام، هادرة متشنجة صارخة: لو كنت راجل ماكنتش عملت كده، إنما أنت حيوان ... كلب ... قذر ... يا حقير ... يا ... ورحمة بابا لأوديك في ستين داهية يا مجرم.
وحتى وهي تقولها منحورة مغيظة شبه مجنونة، لم تحس أنها تشتم أو ترد إهانة، كل ما في الأمر أنها نطقت وانحلت العقدة ، منفعلة لا لسبب إلا أن البكاء حين هدرت بالكلمات توقف.
ثم وجدت نفسها منساقة باندفاع كلماتها، لا تقوى على البقاء في الحجرة فغادرتها مسرعة هوجاء، حتى بدا وكأن خروجها ذاك أكبر وأعمق وأحط كلمة أطلقتها جعبتها.
Неизвестная страница