ففي يوم من أيام الخريف، وقد كنت متجولا بين تلك التلول، والمنحدرات المجاورة لمزرعة يوسف الفخري، فاجأتني العاصفة بأهوائها، وأمطارها، وأخذت تتلاعب بي مثلما يتلاعب البحر الهائج بمركب كسرت الأمواج دفته، ومزقت الريح شراعه، فتحولت نحو الصومعة قائلا في نفسي: هذه فرصة موافقة لزيارة هذا المتنسك، وستكون العاصفة عذري، وأثوابي المبللة شفيعي.
بلغت الصومعة، وأنا في حالة يرثى لها، ولم أطرق الباب حتى ظهر أمامي الرجل الذي طالما تشوقت إلى لقائه حاملا بيده طائرا مهشم الرأس، منبوش الريش وهو يختلج كأنه على آخر رمق من الحياة، فقلت بعد أن حييته «اعذرني يا سيدي على مجيئي إليك في هذه الحالة، ولكن العاصفة شديدة وأنا بعيد عن المنازل».
فتفرس في عابسا، وأجاب بصوت يساوره الاستنكاف: «الكهوف كثيرة في هذه النواحي، وقد كان بإمكانك الالتجاء إليها».
قال هذا وهو يلامس رأس الطائر بانعطاف لم أر مثله في حياتي، فعجبت لمرأي الضدين: الرأفة، والخشونة في وقت واحد، وتحيرت في أمري، وكأنه قد علم بما يخالج ضميري، فنظر إلي نظرة استيضاح، واستعلام ثم قال: «إن العاصفة لا تأكل اللحوم الغامضة، فلم تخافها وتهرب منها؟».
فأجبته: «العاصفة لا تحب الحوامض، ولا الموالح، ولكنها تميل إلى الرطب البارد، ولا أشك بأنها ستجدني لقمة لذيذة إذا قبضت علي ثانية».
فقال وقد انفرجت ملامحه قليلا: «لو مضغتك العاصفة لقمة، لحصلت على شرف رفيع لا تستحقه».
فأجبته: «نعم يا سيدي، ولقد جئت إليك هاربا من العاصفة لكي لا أنال ذلك الشرف الذي لا أستحقه».
فحول وجهه محاولا إخفاء ابتسامة ضئيلة، ثم أشار نحو مقعد خشبي بقرب موقد تتأجج فيه النار، وقال: «اجلس وجفف أثوابك».
فجلست بقرب النار شاكرا، وجلس هو قبالتي على مقعد محفور في الصخر، وأخذ يغمس أطراف أصابعه بمزيج زيتي في طاسة فخارية، ويدهن بها جانح الطائر، ورأسه، وقال: «هذا الشحرور حملته الريح، فهبط على الصخور بين حي وميت».
فقلت: «والريح قد حملتني أيضا إلى بابك يا سيدي، وأنا للآن لا أدري ما إذا كانت قد كسرت جانحي أو هشمت رأسي».
Неизвестная страница