ويهم بأن يهدر صوته، عاليا مهيبا هصورا طالبا من «الثور» أن يذهب عنه، بل حبذا لو جعل الطرد يأخذ شكل الضرب والركل والشلاليت.
ولكن لا شيء يصدر عنه، حتى ولا صوت، وكأنما تتعادل القوة الطاردة مع القوة الجاذبة، ويؤجل قرار طرده، وفي نفس الوقت يكبح جماح عودة دمدمة الرغبات الملعونة تستيقظ في جسده وخياله وتجعله يعود يحلم، بالظلمة، والفحيح، والمفاجأة، والضمة المحمومة الراغبة.
ويدرك الجالسون حوله أنه غاص في فكر خاص لم يعد يشعر معه بأي شيء حوله، ويبدءون يتسللون من «الفراندة» واحدا وراء الآخر حريصين تماما ألا يخدشوا قداسة استغراقه. كلهم يذهبون ما عدا «الثور»؛ إذ رغم أنه أحس بمثل ما أحسوا به، إلا أن هاتفا غامضا موسوسا كأنه صوت الشيطان أهاب ويهيب به أن يظل هناك، وأن موجات من «عمه» «سلطان»، وإشعاعات وترددات، تأتيه وترجو منه أن يبقى، أجل ترجو منه، هو الذي لا يرجو من أحد شيئا، وإنما دائما يأمر حتى لو أراد الرجاء.
4
ماذا يفعل بالله؟
أهو قد جن؟
أم في طريقه الأكيد للجنون؟
أيذهب إلى طبيب من هؤلاء الذين أصبحوا المودة في هذه الأيام، الذين يزعمون القدرة على تحليل النفس، وسبر الرغبات، وحتى تفسير الأحلام؟
ولكن ماذا يدريه أن ما يحدث له مرض، أو أنه حقيقة تحدث له، وأي عار يجلبه على نفسه إذا هو ذهب حتى إلى طبيب في العاصمة الكبيرة لا يعرف أصله ولا فصله، لا يعرف من يكون ومدى عزوته، فحتى الطبيب مهما كان غريبا وجاهلا بصولجانه وهيلمانه، فإنه من رابع المستحيلات أن ينطق أو يشكو، وبلسانه يعترف أن بوادر رغبات غريبة تأخذ شكل النوبات، التي كانت متباعدة أول الأمر، ثم تقاربت وكثرت، حتى أصبحت حياته وأفكاره لا تكاد تدور حول شيء آخر سواها.
أبدا لا يستطيع، ولو شنقوه، أن - بإرادته - يقدم على عمل كهذا، فليفعلها إذن، ويكون هو طبيب نفسه، فهو وحده الأعلم بحاله، ولن يجد مخلوقا في هذا العالم كله يستطيع أن يكشف أمامه كل مكنونات نفسه، ويعاصر معه ويرى بعينيه كل ما انطبع في عقله مذ بدأ يعي بأنه ابن فلان وأمه فلانة، واسمه سلطان، وفقرهم مدقع، وعائلته وإن كانت شديدة الكبرياء بالذات أبوه، ذلك الذي كانت القرية تمتلئ مجالسها إذا جاءت سيرته بالسخرية منه، ومن فقره «الدكر» وأنفه الذي يرنو دائما إلى السماء. كان يرى أباه ينتحي ركنا من فسحة بيتهم، ويخرج من جيبه عشرات من أعقاب السجائر التي التقطها خلسة بخيزرانته التي ركب لها في نهايتها مسمارا رفيعا، بحيث يستطيع وهو في قمة تفاخره بعم أو جد أو قريب، أن يغافل محدثه إذا التقطت عينه عقب سيجارة، وفي انفعالة محسوبة، يرفع خيزرانته وكأنما يدق بها على الأرض مؤكدا أو مقسما، ثم ينزلها بالضبط فوق «العقب» لتندك فيه، وتظل لاصقة به حتى يخلو المكان أو تنصرف عنه العيون، وحينذاك وبخفة يد ماهرة ينتزعها ويضيفها إلى مثيلاتها في جيبه. ومن محصول اليوم يملأ صندوقا معدنيا قديما ورثه عن أبيه الذي كان يملؤه «بالمضغة»، وكانت «مضغته» وما يضفيه لها من محوجات مشهورة في بلدتهم شهرة «غليون» البك ابن العمدة المتعلم في بلاد بره، الجالس إذا جاء زائرا للقرية بين كل حين وحين في دوار أبيه، يحشو غليونه بالتبغ، ويشعله من ولاعة خاصة كانت مثار عجب أهل القرية، إذ كانت شعلة نارها تنطلق أفقية من جانبها، وليست مثل غيرها من الولاعات. أبوه ذلك السامق في قوامه، النحيل الكثيف الشارب، والذي كان لا يمتلك للخروج إلا جلبابا واحدا، هكذا يعرف الجميع، ولكنه دائما وأبدا أبيض نظيفا ناصعا تجيد أمه غسله بالزهرة يوما بعد يوم، وتنشره ليجف في المساء، ويرتديه في الصباح، حتى ليبدو وكأنه يمتلك عشرات الجلاليب الجديدة الناصعة البياض.
Неизвестная страница