Эпоха Возрождения: очень краткое введение
عصر النهضة: مقدمة قصيرة جدا
Жанры
مقدمة
1 - عصر نهضة عالمي
2 - نصوص الحركة الإنسانية
3 - الكنيسة والدولة
4 - عوالم جديدة
5 - العلم والفلسفة
6 - كتابة عصر النهضة من جديد
تسلسل زمني للأحداث
قراءات إضافية
مقدمة
Неизвестная страница
1 - عصر نهضة عالمي
2 - نصوص الحركة الإنسانية
3 - الكنيسة والدولة
4 - عوالم جديدة
5 - العلم والفلسفة
6 - كتابة عصر النهضة من جديد
تسلسل زمني للأحداث
قراءات إضافية
عصر النهضة
عصر النهضة
Неизвестная страница
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
جيري بروتون
ترجمة
إبراهيم البيلي محروس
مراجعة
هبة نجيب مغربي
مقدمة
سيد قديم
تعتبر المتاحف الوطنية والمعارض الفنية من أكثر الأماكن التي بزيارتها يتضح لنا ما نعنيه عندما نتحدث عن «عصر النهضة». فمعظم زوار المتحف الوطني بلندن لا يسعهم أن يغادروا قبل أن يشاهدوا واحدة من أشهر الأعمال الفنية بالمتحف؛ وهي لوحة «السفيران» لهانز هولباين التي يعود تاريخها إلى عام 1533. وبالنسبة للكثيرين، تمثل لوحة هولباين الزيتية صورة محددة المعالم لعصر النهضة الأوروبية، ولكن ما الذي يجعلها تحمل سمات «عصر النهضة» على هذا النحو المميز؟
Неизвестная страница
تصور لوحة «السفيران» رجلين يرتديان ملابس أنيقة وحولهما حاجيات الحياة في القرن السادس عشر. ولعل تصوير هولباين رقيق الدقة والتفصيل لعالم هذين الرجلين اللذين عاشا في عصر النهضة - واللذين يحدقان في الناظر إلى اللوحة بنظرة تحمل وعيا واثقا بالذات لا يخلو من التساؤلات - لهو أمر لم يسبق له مثيل في عالم الفن. يبدو فن القرون الوسطى أكثر غرابة، حيث يفتقر إلى هذا الإبداع شديد الوعي بالنزعة الفردية. حتى إن كان من الصعب فهم الدافع وراء الفيض الجامح من المشاعر المعبر عنه في لوحات مثل لوحة هولباين، يظل من الممكن التوحد مع هذه المشاعر على أنها «حديثة» على نحو ملحوظ. وبعبارة أخرى، عندما ننظر إلى لوحات مثل لوحة «السفيران»، فإننا نلحظ بزوغ شمس الهوية ونزعة الفردية الحديثتين.
شكل 1: لوحة «السفيران» لهانز هولباين، وهي أحد رموز عصر النهضة، مع أنها لم تكتشف إلا في القرن التاسع عشر. ويقدم الشخصان الغامضان والأدوات المعروضة بها كنزا من الرؤى الثاقبة عن تلك الفترة.
1
وهذه بداية مثمرة في محاولة فهم لوحة هولباين باعتبارها تجسيدا فنيا لعصر النهضة. لكن هناك بالفعل بعض المصطلحات الغامضة - إلى حد ما - التي بدأت تتراكم وتحتاج إلى بعض التوضيح. فما هو «العالم الحديث»؟ أوليس هذا المصطلح فضفاضا بقدر مصطلح «النهضة»؟ وبالمثل، هل ينبغي تعريف فن القرون الوسطى (ورفضه بشدة) بكل هذه البساطة؟ وماذا عن «رجل النهضة»؟ وماذا عن «سيدة النهضة»؟ لكي نبدأ في الإجابة على هذه الأسئلة، لا بد من إمعان النظر في صورة هولباين.
عصر نهضة متعلم
إن ما يأسر العينين بقدر ما تأسرهما النظرة الثاقبة للشخصين الواقفين في اللوحة هو المنضدة الموجودة في وسط اللوحة والأشياء المتناثرة فوق رفيها العلوي والسفلي. فعلى الرف السفلي للمنضدة، يوجد كتابان (كتاب ترانيم، وكتاب رياضيات خاص بأحد التجار)، وعود، ونموذج كرة أرضية، وجراب لآلات الفلوت، ومثلث، وفرجاران. ويضم الرف العلوي كرة سماوية، والعديد من الأدوات العلمية شديدة التخصص: أدوات الربعية التي تستخدم لقياس الارتفاع، ومزاول (ساعات شمسية)، وجهاز الربعية لرصد الأجرام السماوية (جهاز ملاحة، وأداة لمعرفة الوقت). وتمثل هذه الأشياء الفنون السبعة الحرة التي شكلت أساس التعليم في عصر النهضة. فالفنون الثلاثة الأساسية - النحو، والمنطق، والبلاغة - كانت معروفة باسم «المقدمات»، ويمكن ربطها بأنشطة هذين الرجلين؛ فهما سفيران تدربا على استخدام النصوص، لكن يتمتعان بمهارة خاصة في فن الجدل والإقناع. أما «الرباعي العلمي» - الذي يشير إلى الحساب، والموسيقى، والهندسة، والفلك - فجميعها جلي في تصوير هولباين الدقيق لكتاب الحساب والعود والأدوات العلمية.
شكلت هذه الموضوعات الأكاديمية أساس «الدراسات الإنسانية»، وهي المسار الدراسي الذي سلكه معظم الشباب في تلك الفترة، والمعروفة على نحو أكثر شيوعا باسم «الحركة الإنسانية». وقد مثلت الحركة الإنسانية تطورا جديدا مهما في أوروبا في أواخر القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وتضمن ذلك التطور دراسة النصوص الكلاسيكية للغتين والثقافتين والسياستين والفلسفتين: اليونانية والرومانية. وقد شجعت الطبيعة شديدة المرونة للدراسات الإنسانية على دراسة مجموعة متنوعة من التخصصات الجديدة التي أصبحت محورا للفكر في عصر النهضة، مثل فقه اللغة الكلاسيكي والأدب والتاريخ والفلسفة الأخلاقية.
يوضح هولباين أن الرجلين اللذين يصورهما في لوحته هما أنفسهما «رجلان جديدان»؛ أي شخصان متعلمان لكنهما خبيران بالشئون الدنيوية، يستخدمان تعليمهما في السعي وراء الشهرة والطموح. فالشخص الموجود إلى اليسار هو جون دى دينتفيل - السفير الفرنسي لدى البلاط الملكي الإنجليزي في عهد الملك هنري الثامن - وإلى اليمين يقف صديقه المقرب، جورج دي سيلف - أسقف لافور. وقد انتقيت الأشياء الموجودة على المنضدة لتشير إلى أن مكانتي هذين الرجلين في عالمي السياسة والدين ترتبط ارتباطا وثيقا بفهمهما للفكر الإنساني. فاللوحة تشير إلى أن تعلم المجالات التي تمثلها هذه الأشياء يعد أمرا بالغ الأهمية للطموح الدنيوي والنجاح.
الجانب المظلم من عصر النهضة
لكن إذا نظرنا إلى الأشياء الموجودة في لوحة هولباين نظرة أكثر إمعانا، فإنها تكشف لنا عن وجه مختلف تماما لعصر النهضة؛ فأحد أوتار العود الموجود على الرف السفلي مقطوعة، وهذا رمز للتنافر وغياب الانسجام، ويوجد بجانب العود كتاب ترانيم مفتوح، يمكن تمييزه بأنه كتاب المصلح الديني مارتن لوثر. وعلى الجانب الأيمن من اللوحة، سحبت الستارة قليلا إلى الوراء لتكشف عن صليب فضي يحمل صورة المسيح مصلوبا. تلفت هذه الأشياء انتباهنا إلى الجدال والخلاف الديني في عصر النهضة. فعندما رسم هولباين هذه اللوحة، كانت أفكار لوثر البروتستانتية تجتاح أوروبا وتتحدى السلطة القائمة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، والوتر المقطوع يعد دلالة قوية على النزاع الديني الذي يصوره هولباين في وجود كتاب ترانيم لوثري بجوار صليب كاثوليكي.
Неизвестная страница
من الواضح أن كتاب الترانيم اللوثري في لوحة هولباين كتاب مطبوع، فاختراع الطباعة في النصف الأخير من القرن الخامس عشر أحدث ثورة في عالم إيجاد المعلومات والمعرفة وتوزيعهما وفهمهما، وبمقارنة الكتب المطبوعة بالنسخ الشاق وغير الدقيق غالبا للمخطوطات، كانت الكتب المطبوعة تنشر بسرعة ودقة وكميات لم يمكن تخيلها قبل ذلك، ولكن انتشار أفكار جديدة في مطبوعات، لا سيما في الشئون الدينية، كان من شأنه كذلك أن يثير حالة من عدم الاستقرار والشك والقلق، مما يدفع الفنانين والمفكرين إلى مزيد من التساؤل عن هويتهم وكيف أنهم يحيون في عالم سريع التوسع. وتعتبر هذه العلاقة بين الإنجاز والقلق الذي يتمخض عنه واحدة من السمات المميزة لعصر النهضة.
وبجانب كتاب الترانيم الخاص بمارتن لوثر في لوحة هولباين، ثمة كتاب آخر مطبوع يبدو من الوهلة الأولى كتابا دنيويا، لكنه يعرض بعدا آخر قويا من عصر النهضة؛ فهذا الكتاب عبارة عن دليل إرشادي للتجار يتعلق بكيفية حساب الربح والخسارة. ووجوده بجانب الأشياء الأكثر ارتباطا بالنواحي «الثقافية» في اللوحة يوضح أن المال والأعمال في عصر النهضة كانا مرتبطين ارتباطا وثيقا بالثقافة والفن. ففي الوقت الذي يلمح فيه الكتاب إلى «الرباعي العلمي» للمعرفة الإنسانية في عصر النهضة، فإنه يشير أيضا إلى الوعي بأن الإنجازات الثقافية لعصر النهضة قامت على النجاح في مجالي التجارة والمال. ومع ازدياد حجم العالم وازدياد درجة تعقيده، كان لزاما أن تكون هناك آليات جديدة لفهم التداول غير المرئي على نحو متزايد للمال والبضائع؛ من أجل زيادة الربح إلى الحد الأقصى وتقليل الخسارة إلى الحد الأدنى. نتج عن ذلك اهتمام متجدد بفروع المعرفة مثل الرياضيات؛ باعتبارها طريقة جيدة لفهم اقتصاديات نموذج عصر النهضة الآخذ في التحول إلى العالمية.
أما وجود نموذج الكرة الأرضية خلف كتاب الحساب للتجار فيؤكد توسع التجارة والمال بوصفهما سمة مميزة لعصر النهضة. ويعد نموذج الكرة الأرضية واحدا من أهم الأشياء التي تحويها اللوحة. فالسفر والاستكشاف والاكتشاف كانت جوانب ديناميكية ومثيرة للجدل من عصر النهضة، والكرة الأرضية في لوحة هولباين تخبرنا بذلك من خلال تصويرها شديد العصرية للعالم كما كان معروفا عام 1533. فأوروبا كانت مكتوبة بالطريقة نفسها التي كانت تكتب بها آنذاك، وهذا في حد ذاته شيء له مدلول؛ حيث كان القرنان الخامس عشر والسادس عشر هما النقطة التي بدأ فيها تعريف أوروبا بوصفها تمتلك هوية سياسية وثقافية مشتركة. فقبل ذلك، نادرا ما كان الناس يطلقون على أنفسهم «أوروبيين». وهولباين يصور أيضا الاكتشافات الأخيرة التي تمخضت عنها رحلات في أفريقيا وآسيا، وكذلك في رحلات «العالم الجديد» التي ابتدأها كريستوفر كولومبوس عام 1492، وإبحار فرديناند ماجلان للمرة الأولى حول العالم في عام 1522. وقد وضعت هذه الاكتشافات أوروبا في عالم سريع الاتساع، وغيرت كذلك من علاقة القارة بالثقافات والمجتمعات التي احتكت بها.
وكما هو الحال مع تأثير آلة الطباعة، وتأثير الاضطرابات الدينية، فإن هذا التوسع العالمي خلف تراثا ذا حدين؛ فكان أحد نتائجه تدمير الثقافات والمجتمعات الأصلية من خلال الحرب والمرض؛ لأنها لم تكن معدة أو مهتمة باعتناق المعتقدات وسبل المعيشة الأوروبية. وإلى جانب الإنجازات الثقافية والعلمية والتكنولوجية عن تلك الفترة، كان هناك تعصب ديني، وجهل سياسي، وتجارة رقيق، وتفاوت هائل في الثروة والمنزلة الاجتماعية - وهذا ما أطلق عليه «الجانب المظلم من عصر النهضة».
السياسة والإمبراطورية
يقودنا هذا إلى أبعاد أخرى بالغة الأهمية لعصر النهضة تناولها هولباين في لوحته، حيث تحدد هذه الأبعاد الرجلين والأغراض الأخرى ألا وهي: السلطة والسياسة والإمبراطورية. ولفهم أهمية هذه القضايا، وكيفية ظهورها في اللوحة، نحتاج إلى معرفة المزيد عن محتويات اللوحة. فقد كان دينتيفل وسيلف يعيشان في إنجلترا عام 1533 بأمر من الملك الفرنسي فرانسيس الأول. وكان الملك هنري الثامن قد تزوج سرا من آن بولين، وكان يهدد بالانشقاق عن الكنيسة الكاثوليكية إذا رفض البابا أن يطلقه من زوجته الأولى. وكان كل من دينتيفل وسيلف يحاولان منع انشقاق هنري عن روما، وكانا بمثابة وسطاء لفرانسيس في المفاوضات. ومع أن هذه اللوحة - على غرار جانب كبير من تاريخ عصر النهضة - عن العلاقات بين الرجال، فإنه من الملاحظ أيضا أنها تصور في جوهرها نزاعا حول امرأة غائبة، ولكن وجودها ملموس بقوة في الأشياء داخل اللوحة والمحيط. فالمحاولات المستميتة من الرجال لإسكات النساء ما كانت إلا سببا للفت مزيد من الانتباه لمكانتهن المعقدة في مجتمع أبوي: فقد حرمت المرأة من الكثير من مزايا التطورات الثقافية والاجتماعية لعصر لنهضة، ولكنها كانت تضطلع بدور رئيسي في آلية عمل هذا المجتمع، بصفتها من تحمل الورثة من الذكور الذين يضمنون الخلود لهذه الثقافة التي يسيطر عليها الذكور.
كما أن دينتيفل وسيلف كانا في لندن لتنفيذ مهمة أخرى؛ ألا وهي لعب دور الوساطة في التحالف السياسي بين هنري وفرانسيس وبين السلطان العثماني سليمان القانوني؛ القوة العظمى الأخرى في السياسة الأوروبية آنذاك. فالبساط الموجود على الرف العلوي للمنضدة في لوحة هولباين كان من تصميم وصناعة العثمانيين، ويشير إلى أن العثمانيين وأراضيهم الممتدة إلى الشرق كانت أيضا جزءا من المشهد الثقافي والتجاري والسياسي لعصر النهضة. ومحاولات دينتيفل وسيلف لدفع هنري الثامن للتحالف مع فرانسيس وسليمان كان بسبب خوفهم من القوة المتنامية للقوة الاستعمارية العظمى الأخرى لعصر النهضة، وهي إمبراطورية هابسبورج بقيادة شارل الخامس (في إسبانيا). وبالمقارنة، نجد أن إنجلترا وفرنسا كانتا لاعبتين استعماريتين صغيرتين: وهذا ما توضحه لنا الكرة الأرضية في اللوحة، والتي تشير أيضا إلى أن الإمبراطوريات الأوروبية بدأت في اقتسام العالم المكتشف حديثا. وهذه الكرة التي وضعها هولباين في لوحته توضح الخط الفاصل الذي وضعته إمبراطوريات إسبانيا والبرتغال عام 1494، بعد «اكتشاف» كولومبوس لأمريكا.
لقد وضعت هذه الحدود لحل نزاع قائم على أراض في الشرق الأقصى، حيث إن إسبانيا والبرتغال كانتا تحاولان استعمار جزر الملوك - وهي من جزر الأرخبيل الإندونيسي البعيدة - التي كانت تشتهر بإنتاج التوابل التي تدر أرباحا هائلة. وفي عصر النهضة، وضعت أوروبا نفسها في مركز الكرة الأرضية، ولكنها تطلعت إلى ثروات الشرق، بدءا من منسوجات وحرائر الإمبراطورية العثمانية، إلى توابل وفلفل الأرخبيل الإندونيسي. والكثير من محتويات لوحة هولباين لها أصل شرقي، بدءا من الحرير والمخمل اللذين يرتديهما الرجلان، إلى المنسوجات والتصميمات التي تزين الغرفة.
أما الأشياء الموجودة في أسفل اللوحة فإنها تكشف عن جوانب متعددة من عصر النهضة: الإنسانية، والدين، والطباعة، والتجارة، والاستكشاف، والسياسة، والإمبراطورية، بالإضافة إلى الوجود البارز لثروات وعلوم الشرق. وأما الأشياء الموجودة على الرف العلوي فإنها تشير إلى أمور مجردة وفلسفية أكثر؛ فالكرة السماوية هي أداة فلكية تستخدم لقياس النجوم وطبيعة الكون، وبجانب الكرة توجد مجموعة من المزاول، والتي تستخدم لمعرفة الوقت بالاستعانة بأشعة الشمس. وأما عن الأشياء كبيرة الحجم فهي الربعية التي تستخدم لقياس الارتفاع وجهاز لرصد الأجرام السماوية؛ وهي أدوات ملاحية تستخدم في تحديد موقع السفينة من حيث الزمان والمكان. ومعظم هذه الأدوات تم اختراعها بواسطة علماء فلك عرب ويهود، وانتقلت إلى الغرب بعد ذلك عندما احتاج المسافرون الأوروبيون خبرة ملاحية في السفر لمسافات بعيدة. وهذه الأدوات تعكس الاهتمام المتزايد بفهم العالم الطبيعي والسيطرة عليه في عصر النهضة. وكما ناقش فلاسفة عصر النهضة طبيعة عالمهم، فإن الملاحين وصناع الأدوات والعلماء حولوا هذه المناقشات الفلسفية إلى حلول عملية للمشكلات الطبيعية؛ وكانت النتيجة هي ابتكار أشياء مثل تلك الموجودة في لوحة هولباين.
وأخيرا، دعنا نتأمل الصورة المائلة الموجودة أسفل اللوحة والتي يستحيل فهمها إذا نظرنا إليها مباشرة. ولكن إذا وقف الناظر بزاوية ونظر إلى اللوحة، فستتحول الصورة إلى جمجمة مرسومة بوضوح، وهذه من الخدع البصرية الشائعة التي كان يستخدمها الكثير من فناني عصر النهضة، والتي يطلق عليها أنامورفوسيس. ولقد قال مؤرخو الفن بأن هذه الصورة تنتمي إلى فن «فانيتاس» والتي تذكرنا بحقيقة تقشعر منها الأبدان، وهي أنه بالرغم من الثروة والقوة والعلم، فإن الموت مصيرنا جميعا. ولكن تبدو هذه الجمجمة وكأنها تمثل مبادرة هولباين الفنية، بغض النظر عن متطلبات عميله. وتصور لنا هولباين وقد تحرر من قيود هويته كفنان محترف، وتؤكد القوة المتزايدة للرسام واستقلاليته كفنان لديه القدرة على تجربة التقنيات والنظريات الجديدة مثل البصريات وعلم الهندسة في ابتكار صور مرسومة ثرية بالإبداع.
Неизвестная страница
أين كان عصر النهضة ومتى؟
عادة ما يرتبط عصر النهضة بدويلات المدن الإيطالية مثل فلورنسا، ولكن درجة الأهمية التي لا شك فيها التي تحتلها إيطاليا غالبا ما حجبت تطور الأفكار الجديدة في شمال أوروبا وشبه جزيرة أيبيريا والعالم الإسلامي وجنوب شرق آسيا وأفريقيا. ولكي نعرض طبيعة عصر النهضة من منظور عالمي شامل، سيكون من الدقة أن نشير إلى سلسلة من عصور نهضة في تلك المناطق، والتي عكس كل منها مميزات تلك المناطق وسماتها الخاصة. وعصور النهضة في هذه المناطق غالبا ما كانت تتداخل وتتبادل التأثير مع عصر النهضة الكلاسيكي المعروف الذي اتخذ من إيطاليا مركزا له، فقد كان عصر النهضة ظاهرة دولية سلسة ومتنقلة بصورة متميزة.
واليوم، هناك إجماع على أن تعبير «عصر النهضة» يشير إلى تغير عميق ودائم وتحول في الثقافة والسياسة والفن والمجتمع في أوروبا ما بين عامي 1400 و1600. والكلمة تشير إلى فترة من التاريخ، وإلى نموذج أكثر شمولا من التجدد الثقافي، وهي مشتقة من كلمة فرنسية تعني «إحياء». ومنذ القرن التاسع عشر، استخدم هذا المصطلح لوصف فترة من التاريخ الأوروبي شهدت إحياء التقدير الفكري والفني للثقافة اليونانية-الرومانية، والذي أدى إلى ظهور المؤسسات الفردية والاجتماعية والثقافية الحديثة التي تحدد هوية الكثيرين في العالم الغربي اليوم.
غالبا ما يرى مؤرخو الفن أن عصر النهضة يبدأ من القرن الثالث عشر، مع فن جوتو وتشيمابو، وينتهي في أواخر القرن السادس عشر بأعمال مايكل أنجلو، ورسامي فينيسيا مثل تيتيان. ومن ناحية أخرى، يتبنى الباحثون في مجال الأدب في العالم الأنجلو-أمريكي منظورا مختلفا، فيركزون على نشأة الأدب الإنجليزي باللغة العامية في القرنين السادس عشر والسابع عشر في شعر ودراما سبنسر وشكسبير وميلتون. أما المؤرخون، فيتبنون نهجا مختلفا، حيث يطلقون على الفترة من حوالي 1500 إلى 1700 «أوائل العصر الحديث»، بدلا من «عصر النهضة». وقد ازدادت حدة هذه الاختلافات في تأريخ - وحتى تسمية - عصر النهضة لدرجة أثارت الشكوك في صحة هذا المصطلح؛ فهل لا يزال للمصطلح أي معنى؟ وهل من الممكن فصل عصر النهضة عن العصور الوسطى التي سبقته وعن العصر الحديث الذي تلاه؟ وهل هذا المصطلح يدعم الاعتقاد بالتفوق الثقافي الأوروبي؟ للإجابة على هذه الأسئلة، علينا أن نفهم أولا كيف ظهر مصطلح «عصر النهضة» إلى الوجود.
لم يكن الناس في القرن السادس عشر يعرفون مصطلح «عصر النهضة»، وكانت الكلمة الإيطالية بمعنى «إحياء» تستخدم في القرن السادس عشر للإشارة إلى إحياء الثقافة الكلاسيكية. ولم يستخدم المصطلح الفرنسي «عصر النهضة» كعبارة تاريخية وصفية حتى منتصف القرن التاسع عشر. وكان أول من استخدم هذا المصطلح هو المؤرخ الفرنسي جول ميشليه، القومي الفرنسي الذي كان ملتزما بقوة بمبادئ المساواة التي أفرزتها الثورة الفرنسية. وفي الفترة ما بين 1833 و1862، كرس ميشليه جهده لمشروعه الأعظم؛ ألا وهو تأليف «تاريخ فرنسا» الذي صدر في عدة مجلدات. كان ميشليه ينتمي للتيار الجمهوري التقدمي ، وملأ الدنيا ضجيجا بإدانته للطبقة الأرستقراطية والكنيسة. وفي عام 1855، نشر ميشليه المجلد السابع من «تاريخ فرنسا» وأسماه «عصر النهضة»؛ وكان عصر النهضة يعني بالنسبة له: ... اكتشاف العالم، واكتشاف الإنسان. القرن السادس عشر ... بدأ من كولومبوس إلى كوبرنيكوس، ومن كوبرنيكوس إلى جاليليو، ومن اكتشاف الأرض إلى السماوات. لقد أعاد الإنسان اكتشاف نفسه.
كانت الاكتشافات العلمية التي توصل إليها مستكشفون ومفكرون مثل كولومبوس وكوبرنيكوس وجاليليو تمضي جنبا إلى جنب مع تعريفات فلسفية أكثر للفردية التي رصدها ميشليه في كتابات رابليه ومونتين وشكسبير. وكانت هذه الروح الجديدة تتناقض مع ما كان يراه ميشليه في القرون الوسطى على أنه صفة «غريبة ووحشية». فبالنسبة له، كان عصر النهضة يمثل حالة ديمقراطية تقدمية تحتفي ببعض الفضائل العظيمة التي يقدرها - مثل العقل والحقيقة والفن والجمال. ووفقا لميشليه، فإن عصر النهضة «يتطابق في جوهره مع العصر الحديث».
كان ميشليه أول مفكر يعرف عصر النهضة على أنه فترة تاريخية حاسمة في الثقافة الأوروبية مثلت فاصلا جوهريا مع العصور الوسطى، والتي صاغت فهما حديثا للبشرية ومكانتها في العالم. كما روج لعصر النهضة على أنه يمثل روحا معينة أو موقفا بعينه بقدر ما يشير إلى فترة تاريخية محددة. لم يبدأ عصر النهضة كما يراه ميشليه في إيطاليا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر كما قد نتوقع، وإنما في القرن السادس عشر. وبصفته قوميا فرنسيا، فإن ميشليه كان شغوفا بأن يدعي أن عصر النهضة كان ظاهرة فرنسية. ونظرا لأنه كان ينتمي للحزب الجمهوري، فقد رفض أيضا ما رأى أنه إعجاب إيطاليا في القرن الرابع عشر بالكنيسة، والاستبداد السياسي، واعتبر أن هذا ضد الديمقراطية تماما، ومن ثم، بعيد كل البعد عن روح عصر النهضة.
وقد تشكلت قصة عصر النهضة عند ميشليه بصورة قاطعة على يد ظروفه الخاصة في القرن التاسع عشر. وفي الحقيقة، فإن قيم عصر النهضة عند ميشليه قريبة جدا بشكل مدهش من قيم ومبادئ الثورة الفرنسية: التي تعتنق مبادئ الحرية والعقل والديمقراطية، وترفض الاستبداد السياسي والديني، وتحافظ على قدسية روح الحرية وكرامة «الإنسان ». ونظرا لشعوره بالإحباط من عدم تطبيق هذه القيم في عصره، فقد راح ميشليه يبحث عن اللحظة التاريخية التي انتصرت فيها قيم الحرية والمساواة وبشرت بعالم حديث يخلو من الاستبداد.
عصر النهضة من منظور سويسري
إذا كان ميشليه هو من اكتشف فكرة عصر النهضة، فإن الأكاديمي السويسري ياكوب بوركهارت عرفها بأنها ظاهرة إيطالية حدثت في القرن الخامس عشر. فقد أصدر بوركهارت في عام 1860 كتابا باسم «حضارة عصر النهضة في إيطاليا»، وقد قال بأن الخصائص المميزة للحياة السياسية في نهاية القرن الخامس عشر أدت إلى ظهور نزعة فردية عصرية متميزة. وقد كان إحياء العصور الكلاسيكية القديمة، واكتشاف عالم أوسع، وعدم الارتياح المتزايد تجاه الدين الذي يتخذ شكلا مؤسسيا؛ يعني أن «الإنسان أصبح فردا له روحانيته». وقارن بوركهارت عمدا بين هذا التطور الجديد وبين غياب الوعي بالذات الذي كان السمة الأساسية للعصور الوسطى من وجهة نظره؛ إذ كان «الإنسان مدركا لذاته على أنه فرد من جنس كامل، أو من مجتمع أو حزب أو عائلة أو مؤسسة». بعبارة أخرى، فإن الناس - قبل القرن الخامس عشر - كانوا يفتقرون إلى الإحساس القوي بهويتهم الفردية. وطبقا لبوركهارت، فإن إيطاليا في القرن الخامس عشر أنجبت «إنسان عصر النهضة»، والذي أطلق عليه «المولود الأول بين أبناء أوروبا الحديثة»، وكانت النتيجة هي ذلك الشكل الذي أصبح مألوفا الآن لعصر النهضة: مهد العالم الحديث الذي أنشأه بيترارك وألبيرتي وليوناردو، والذي يتسم بإحياء الثقافة الكلاسيكية، وانتهى بحلول منتصف القرن السادس عشر.
Неизвестная страница
لم يسترسل بوركهارت كثيرا في حديثه عن فن عصر النهضة، أو التغيرات الاقتصادية، ولكنه غالى في تقديره لما يرى أنه نهج شكوكي، بل وحتى «وثني» للدين في ذلك الوقت، وكان تركيزه مقتصرا على إيطاليا فقط، فلم يحاول أن يربط عصر النهضة بالثقافات الأخرى. وظل فهمه لمصطلحات مثل «الفردية» و«العصرية» غامضا للغاية. وعلى غرار ميشليه، كانت رؤية بوركهارت لعصر النهضة مبنية على ظروفه الشخصية. فقد كان بوركهارت مفكرا أرستقراطيا، يفتخر بتأييده للنزعة الفردية البروتستانتية والجمهورية في سويسرا. ولكنه كان يخشى نمو الديمقراطية الصناعية، وما رأى أنه تدمير للجمال الفني. ومن ثم، فقد كانت رؤيته لعصر النهضة كفترة اتحد فيها الفن والحياة، واحتفي فيها بالجمهورية ولكن مع تقييدها، وتولت الدولة تكوين صورة معتدلة من الدين، تبدو صورة مثالية لمدينة بازل التي يحبها. ورغم ذلك، فقد ظل كتاب بوركهارت - في الجدل الدائر بأن عصر النهضة كان أساس العصر الحديث - في قلب دراسات عصر النهضة منذ ذلك الحين، وغالبا ما كان يواجه الكثير من الانتقادات، إلا أنه لم يستبعد تماما.
وقد وجد احتفاء كل من ميشليه وبوركهارت بالفن والنزعة الفردية، على أنهما السمات المحددة لعصر النهضة، الدعم المنطقي في دراسة والتر باتر التي تحمل اسم «عصر النهضة»، والتي نشرت لأول مرة في إنجلترا عام 1873. تلقى باتر تعليمه في أوكسفورد، وعمل أستاذا بها، وكان مؤيدا للمذهب الجمالي، واستخدم دراسته لعصر النهضة كوسيلة للدفاع عن اعتقاده في «حب الفن من أجل الفن». رفض باتر الجوانب السياسية والعلمية والاقتصادية لعصر النهضة، حيث رأى أنها غير ذات أهمية، كما رأى «روح التمرد والثورة ضد الأفكار الأخلاقية والدينية التي كانت سائدة في ذلك الوقت» في الأعمال الفنية لبعض رسامي القرن الخامس عشر مثل بوتيتشيلي وليوناردو وجورجوني. كان هذا احتفاء جماليا تلذذيا، بل ووثنيا، لما كان يطلق عليه باتر «متعة الحواس والخيال». وقد وجد باتر آثارا لهذا الاعتقاد «بحب أمور الفكر والخيال من أجل الفكر والخيال» ترجع إلى القرن الثاني عشر والقرن السابع عشر. ورغم أن الكثيرين قد صدموا بكتاب باتر الفاسد والمضاد للدين، فقد شكلت آراؤه نظرة العالم الناطق بالإنجليزية لعصر النهضة على مدار عقود.
لقد رسم كل من ميشليه وبوركهارت وباتر صورة عن عصر النهضة من منظور القرن التاسع عشر، صورة ترى هذا العصر فترة روحانية أكثر منها تاريخية. وقد كشفت إنجازات الفن والثقافة موقفا جديدا تجاه الفردية وما يعنيه أن يكون المرء «متحضرا». ومشكلة هذه الطريقة في تعريف عصر النهضة أنها بدلا من أن تقدم وصفا تاريخيا دقيقا لما حدث منذ القرن الخامس عشر وما تلاه، فقد بدت أكثر وكأنها مثال نموذجي للمجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر. فقد احتفى هؤلاء النقاد بالديمقراطية المحدودة، ومذهب الشك تجاه الكنيسة، وقوة الفن والأدب، وانتصار الحضارة الأوروبية على جميع الحضارات الأخرى. وقد شكلت هذه المبادئ أسس الإمبريالية الأوروبية في القرن التاسع عشر. ففي تلك المرحلة من التاريخ التي كانت فيها أوروبا تحاول بعدوانية فرض سيطرتها على معظم أجزاء الأمريكتين وأفريقيا وآسيا، كان أناس مثل باتر يخلقون رؤية لعصر النهضة بدت كما لو أنها تقدم تأصيلا وتبريرا للهيمنة الأوروبية على العالم.
عصر نهضة القرن العشرين
وفي وقت مبكر من القرن العشرين، ظهرت وجهة نظر أكثر تناقضا عن عصر النهضة. وقد واجه بوركهارت أول التحديات في عام 1919، عندما نشر يوهان هازينجا كتاب: «انحسار العصور الوسطى». فقد درس هازينجا كيف تم تجاهل ثقافة ومجتمع أوروبا الشمالية في التعريفات السابقة لعصر النهضة، وتحدى تقسيم بوركهارت لتلك الفترة إلى «عصور وسطى» و«عصر النهضة»، قائلا بأن الأسلوب والمواقف التي حددها بوركهارت بأنها عصر النهضة، كانت في الواقع انحسارا لروح العصور الوسطى. واستدل هازينجا بالفن الفلمنكي ليان فان أيك في القرن الخامس عشر:
إنه - من حيث الشكل والمضمون - نتاج تراجع العصور الوسطى. وإذا اكتشف بعض مؤرخي الفن عناصر عصر النهضة خلال هذه الفترة، فذلك لأنهم اختلط عليهم الأمر بشكل خاطئ تماما في التمييز بين الواقعية وعصر النهضة. وهكذا أصبحت هذه الواقعية الدقيقة، وهذا الطموح في تقديم كافة التفاصيل الطبيعية، هما السمة المميزة لروح العصور الوسطى التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة.
تمثل الواقعية المرئية المفصلة في لوحة فان أيك - في نظر لهازينجا - نهاية تقاليد العصور الوسطى، وليس ميلادا لروح عصر النهضة المتمثلة في التعبير الفني القوي. ورغم أن هازينجا لم يرفض استخدام مصطلح «عصر النهضة»، فإنه لم يتبق من الفكرة سوى جزء ضئيل لم ير أنه قد انبثق عن العصور الوسطى. لقد قدم كتاب هازينجا نظرة متشائمة للغاية لنموذج عصر النهضة الذي احتفى به أسلافه في القرن التاسع عشر. ونظرا لأن هذا الكتاب قد وضع في خضم الحرب العالمية الأولى، فليس من المدهش أنه لم يستطع إثارة قدر كبير من الحماسة لفكرة عصر النهضة باعتباره ازدهار تفوق الفردية و«الحضارة» الأوروبية.
شهد منتصف القرن العشرين قيام مجموعة من المفكرين المهاجرين من أوروبا الوسطى بإعادة تقييم عميق لعصر النهضة، في وقت هدد فيه ظهور الأنظمة الاستبدادية بتقويض القيم الفلسفية الرحيمة للنزعة الإنسانية في عصر النهضة. فقد هرب العديد من الباحثين الألمان - مثل بول أوسكار كريستلر، وهانز بارون، وإرفين بانوفسكي - من الفاشية التي ظهرت في ثلاثينيات القرن العشرين، وذهبوا إلى المنفى في الولايات المتحدة؛ ولذلك فإن كتاباتهم اللاحقة عن عصر النهضة تأثرت تأثرا كبيرا بهذه الأحداث، ولا تزال تؤثر في الدراسات المعاصرة عن تلك الفترة.
يقول كتاب «أزمة عصر النهضة الإيطالية المبكرة» (1955) لهانز بارون بأن إحدى اللحظات الفارقة في تاريخ الحركة الإنسانية في عصر النهضة ظهرت في فلورنسا نتيجة لحرب ميلانو الثانية (1397-1402). ومن منظور بارون، فإن اللحظة التي استعد فيها دوق ميلانو جان جالياتسو فيسكونتي لمهاجمة فلورنسا عام 1402 كانت أشبه «بوقائع التاريخ الحديث التي يخيم فيها الغزو بهدف التوحيد على سماء أوروبا». وعندما قارن بارون جان جالياتسو بنابليون وهتلر، توصل إلى أن تلك المقارنات ساعدت على فهم «أزمة صيف عام 1402، وفهم أهميتها المادية والنفسية بالنسبة للتاريخ السياسي لعصر النهضة، ولا سيما لنمو الروح المدنية بفلورنسا». أصيب جان جالياتسو بالطاعون في سبتمبر 1402 ونجت فلورنسا من بين يديه. ومن منظور بارون، فإن البطل العظيم لما أطلق عليه انتصار الجمهورية المدنية على حكم الفرد الإقطاعي كان العالم ورجل الدولة ليوناردو بروني. ووفقا لما ذكره بارون في كتابه «في مدح مدينة فلورنسا» وكتابه «تاريخ الشعب الفلورنسي»، فإن بروني قد تحدث عن «فلسفة جديدة للمشاركة السياسية، والحياة النشطة التي نشأت اعتراضا على نماذج الانسحاب العلمي». وكان هذا يمثل تعريف بارون للنزعة الإنسانية المدنية، والتي «كانت تحاول أن تثقف الإنسان باعتباره عضوا في مجتمعه ودولته»، والتي اعتنقت فضائل الجمهورية، والتي رأى بارون أنها ممثلة في عائلة ميديتشي في فلورنسا.
كانت أطروحة بارون استجابة جذابة لدور المفكر الإنساني في وقت كانت أوروبا مهددة بظهور الاستبداد السياسي، واعتبرت هذه الأطروحة فلورنسا وآل ميديتشي في قلب أصول عصر النهضة، ولكنها في الوقت نفسه نظرت إلى النزعة الإنسانية لدى بروني والتوجه الجمهوري في فلورنسا نظرة مثالية. أما بول أوسكار كريستلر، فقد تبنى منهجا مغايرا لمنهج بارون؛ فبالنسبة لكريستلر، الفلسفة التأملية لمارسيليو فيتشينو - وهو من مؤيدي الحركة الإنسانية في فلورنسا - خاصة كتابه «اللاهوت الأفلاطوني» (المكتوب في الفترة ما بين 1469 و1473)؛ هي ما حددت انصهارا جديدا بين العالم الكلاسيكي والمسيحية. ومن منظور كريستلر، فإن ابتكار فيتشينو يكمن في الاعتقاد بأن:
Неизвестная страница
الفلسفة تقف الآن حرة وعلى قدم المساواة مع الدين، ولكن لا يمكن أن تتعارض معه؛ لأن الأصل المشترك والمحتوى المشترك يضمن اتفاقهما. وهذا بلا شك أحد هذه المفاهيم التي أشار بها فيتشينو إلى الطريق نحو المستقبل.
تناولت أفلاطونية فيتشينو العلاقات المتوترة بين الفلسفة والدين والدولة؛ تلك العلاقات التي كانت أيضا متوترة في أوروبا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي عندما كان كريستلر يدرس أعمال فيتشينو.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، والاضطرابات الاجتماعية والسياسية في ستينيات القرن العشرين، خاصة تسييس العلوم الإنسانية وظهور الحركة النسائية والمساواة بين الجنسين، خضع عصر النهضة لعملية إعادة تقييم جوهرية. وكانت هناك استجابة مؤثرة بوجه خاص من الولايات المتحدة الأمريكية. ففي عام 1980، نشر الباحث الأدبي ستيفن جرينبلات كتاب «تشكيل الذات في عصر النهضة: من مور إلى شكسبير». وقد بنى الكتاب على وجهة نظر بوركهارت عن عصر النهضة بأنه نقطة ميلاد الإنسان الحديث. ويقول جرينبلات - الذي أسس عمله على التحليل النفسي وعلم الإنسان والتاريخ الاجتماعي - بأن القرن السادس عشر قد شهد «وعيا متزايدا بتشكيل الهوية الإنسانية»، حيث إن الرجل (وأحيانا المرأة) تعلم كيف يعالج أو «يشكل» ذاته وفقا للظروف المحيطة. وعلى غرار بوركهارت، رأى جرينبلات ذلك بداية ظاهرة عصرية على نحو مميز. وبالنسبة لجرينبلات، فإن أعمال كبار كتاب القرن السادس عشر بإنجلترا - مثل إدموند سبنسر، وكريستوفر مارلو، وويليام شكسبير - قدمت شخصيات خيالية مثل فاوستس وهاملت اللذين - بإدراك كامل للذات - تأملا هوياتهما وبدآ معالجتها؛ أي إنهما - على هذا المستوى - كانا أشبه برجلين عصريين. واللوحة التي استخدمها جرينبلات لعرض نظريته عن تشكيل الذات كانت بالضبط مثل لوحة «السفيران» لهانز هولباين.
استنتج جرينبلات أنه في عصر النهضة «بدأ موضوع الإنسان نفسه يبدو مقيدا بصورة ملحوظة، ويبدو المنتج الأيديولوجي لعلاقات القوة في مجتمع معين». ونظرا لأن جرينبلات كان كاتبا أمريكيا، فقد استعرض لاحقا إعجابه بإنجازات عصر النهضة وقلقه بشأن الجانب المظلم منه، ولا سيما - بالنسبة له - استعمار العالم الجديد ومعاداة السامية التي انتشرت طوال القرن السادس عشر.
ورغم عنوان كتاب جرينبلات، فإنه وغيره من الباحثين بدءوا في استخدام تعبير «أوائل العصر الحديث» للإشارة إلى عصر النهضة. وهذا المصطلح مشتق من التاريخ الاجتماعي، ويشير إلى علاقة تملؤها الشكوك بين عصر النهضة والعالم الحديث بشكل أكثر من النظرة المثالية التي يتبناها ميشليه وبوركهارت. كما يؤكد أيضا على أن عصر النهضة فترة من التاريخ وليس «الروح» الثقافية كما أشار كتاب القرن التاسع عشر. ومصطلح «أوائل العصر الحديث» كان يشير كذلك إلى أن ما حدث في الفترة ما بين 1400 و1600 كان له تأثير كبير على العالم الحديث. وبدلا من التركيز على كيف نظر عصر النهضة إلى العالم الكلاسيكي، فإن مصطلح «أوائل العصر الحديث» يشير إلى أن الفترة تضمنت توجها مستقبليا وضع تصورا مبكرا لعالمنا الحديث.
كما أشعل مفهوم أوائل العصر الحديث فتيل استكشاف موضوعات وقضايا لم يكن يتصور أحد أن لها علاقة بعصر النهضة. وقد عمد بعض الباحثين مثل جرينبلات، وناتالي زيمون ديفيس في كتابها «المجتمع والثقافة في فرنسا في أوائل العصر الحديث» (1975) إلى استكشاف الأدوار الاجتماعية التي لعبها الفلاحون والحرفيون، والمخنثون، والنساء «الجامحات». ونظرا لأن التخصصات الفكرية مثل علم الإنسان والأدب والتاريخ تتعلم من الرؤى النظرية لبعضها البعض، فقد ازداد التركيز على الفئات المستبعدة والأمور المهمشة. ومن ثم، خضعت فئات مثل «السحرة» و«اليهود» و«السود» لدراسة متأنية مجددا، حيث سعى النقاد لاستعادة الأصوات المهملة أو المفقودة من عصر النهضة.
وقد تأثر بعض النقاد - مثل جرينبلات وزيمون ديفيس - بالفكر الفلسفي والنظري في أواخر القرن العشرين، لا سيما فكر حركتي ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة. وقد كانت هذه المناهج متشككة في «الروايات الجليلة» للتغير التاريخي من عصر النهضة إلى التنوير والحداثة. وهناك بعض المفكرين الذين ينتمون إلى توجهات متنوعة - مثل ثيودور أدورنو، وميشيل فوكو - قالوا بأن القيم الإنسانية والحضارية التي اعتبروا أنها نشأت في عصر النهضة لم يكن لها رد على الكوارث - بل وحتى من الممكن أن تكون متواطئة معها - التي نتجت عن التجارب السياسية للنازية والستالينية وأهوال محرقة الهولوكوست ومعسكرات الاعتقال السوفييتية. ونتيجة لذلك، فإن القليل من المفكرين في نهاية القرن العشرين كانت لديهم رغبة في الاحتفاء بالإنجازات الثقافية والفلسفية الكبرى لعصر النهضة، وبدلا من ذلك، بدأ الكثير من المؤرخين في تحليل الأشياء والأمور على مستوى محلي أكثر.
وبالمثل، فإن الأشياء العادية التي تمثل أهمية في الحياة اليومية ولكنها فقدت أو دمرت لاحقا، ظهرت لها أهمية مجددا. وبدلا من أن يركز الباحثون من مختلف التخصصات العلمية على فنون الرسم والنحت والهندسة المعمارية، فإنهم بدءوا البحث في كيف شكلت الأهمية المادية للأثاث والطعام والملابس والخزف وغيرها من الأشياء الدنيوية، عالم عصر النهضة. وبدلا من رؤية أوجه التشابه، فإن هذه المناهج أشارت إلى الهوة بين عصر النهضة والعالم الحديث. فالأشياء والهويات الشخصية لم تكن ثابتة وغير قابلة للتغيير كما أشار بوركهارت ضمنا في حديثه عن الإنسان «الحديث»، بل كانت سلسة وتعتمد على ما حولها.
ولا يزال النزاع قائما على تراث عصر النهضة في القرن الحادي والعشرين، فمنذ الهجوم على الولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر 2001، احتل الحديث عن صدام الحضارات بين الشرق والغرب موقع الريادة بناء على افتراض أن عصر النهضة يمثل انتصارا عالميا للقيم العليا لإنسانية الغرب. ولكن كما سنرى في الفصل التالي، فإن أصول عصر النهضة كانت مختلطة ثقافيا أكثر بكثير مما قد توحي هذه المزاعم، ويمتد تأثيرها إلى ما وراء شواطئ أوروبا.
هوامش
Неизвестная страница
الفصل الأول
عصر نهضة عالمي
إحدى مشكلات التعريفات الكلاسيكية المقترحة لعصر النهضة هي تلك الحفاوة بإنجازات الحضارة الأوروبية لدرجة استبعاد ما دونها. وليس من قبيل الصدفة أن الفترة التي شهدت وضع هذا المصطلح هي نفسها الفترة التي شهدت قيام أوروبا بتأكيد هيمنتها الاستعمارية بمنتهى العدوانية في جميع أنحاء العالم. وفي الأعوام الأخيرة، أدت المناهج البديلة لدراسة عصر النهضة من جوانب التاريخ والاقتصاد وعلم الإنسان إلى تعقيد هذه الصورة، وقدمت عوامل بديلة حاسمة لفهم عصر النهضة، كان قد رفضها مفكرو القرن التاسع عشر أمثال ميشليه وبوركهارت؛ حيث اعتبروها غير ذات صلة بعصر النهضة. ويضع هذا الفصل عصر النهضة في إطار العالم الأوسع؛ إذ يوضح أن التجارة والمال والسلع والرعاية والصراع الاستعماري والتبادل مع مختلف الثقافات كانت جميعها عناصر أساسية لعصر النهضة. فالتركيز على هذه القضايا يقدم فهما مختلفا لما شكل عصر النهضة. كما أنه يدفعنا إلى التفكير في إبداع عصر النهضة خارج الإطار المقتصر على الرسم والكتابة والنحت والعمارة. كما أن هناك صناعات أخرى - كالخزف والمنسوجات والأشغال المعدنية والأثاث - شكلت كذلك معتقدات وتوجهات الناس، على الرغم من أن الكثير من هذه الأشياء أهملت أو دمرت أو فقدت منذ ذلك الوقت.
هناك لوحة شهيرة أخرى أثارت الكثير من هذه القضايا وهي لوحة جنتيلي وجوفاني بيليني المسماة: «القديس مرقص يعظ في الإسكندرية»، وهي أهم لوحة في مجموعة بيناكوتيكا دي بيريرا في ميلان. وتصور لوحة بيليني القديس مرقص - مؤسس الكنيسة المسيحية في الإسكندرية - حيث استشهد عام 75 بعد الميلاد تقريبا، وهو أيضا القديس الراعي لفينيسيا. ويظهر القديس مرقص في اللوحة واقفا على منبر وهو يعظ مجموعة من النساء الشرقيات المتشحات بعباءات بيضاء. وتقف خلف القديس مرقص مجموعة من نبلاء فينيسيا، بينما تصطف أمامه صفوف غير عادية من الشخصيات الشرقية التي تختلط في سهولة مع أوروبيين آخرين. وضمت هذه الصفوف مماليك مصريين ومغاربة من شمال أفريقيا وعثمانيين وفرسا وإثيوبيين وتتارا.
شكل 1-1: تجسد لوحة جنتيلي وجوفاني بيليني «القديس مرقص يعظ في الإسكندرية» (1504-1507) افتتان أوروبا بثقافة وعمارة ومجتمعات الشرق.
1
تكمن الإثارة في هذا العمل في الثلث السفلي من اللوحة، بينما يهيمن المشهد المؤثر للإسكندرية على باقي اللوحة. يهيمن على خلفية اللوحة كنيسة ذات قبة مبنية على الطراز البيزنطي؛ وهي بمثابة إعادة تصور خيالي لكنيسة القديس مرقص بالإسكندرية. وتوجد في الساحة شخصيات شرقية تتجاذب أطراف الحديث، بعضهم على ظهور الخيل، والبعض الآخر يقودون جمالا وزرافة. أما البيوت التي تواجه الساحة فتبدو مزينة بالنوافذ الحديدية والقرميد المصري، وتتدلى قطع السجاد إسلامي الطراز من النوافذ، في حين أن المآذن والأعمدة والركائز التي تشكل خط الأفق هي مزيج من معالم الإسكندرية، وتصورات من إبداع الأخوين بيليني الخاص. والكنيسة البيزنطية هي خليط منتقى من عناصر من كنيستي سان ماركو في فينيسيا، وآيا صوفيا في القسطنطينية، في حين أن الأبراج والأعمدة التي تشاهد على بعد تتوافق مع بعض أشهر المعالم في مدينة الإسكندرية، والتي تم بالفعل محاكاتها في الهندسة المعمارية لمدينة فينيسيا نفسها.
تبدو اللوحة للوهلة الأولى كأنها صورة ورعة للشهيد المسيحي وهو يعظ مجموعة من «غير المؤمنين»، وهي مستوحاة من العالم الكلاسيكي الذي يحترمه ويقدره كثيرا مفكرو وفنانو عصر النهضة. ومع ذلك، فإن هذا مجرد جانب واحد فقط من القصة. فعلى الرغم من أن القديس مرقص كان يرتدي زيا رومانيا قديما - وذلك بما يتفق مع حياته في القرن الأول الميلادي في الإسكندرية - فإن الملابس التي كان يرتديها الحضور في اللوحة تنتمي بوضوح لنهاية القرن الخامس عشر الميلادي، مثلها في ذلك مثل المباني المجاورة. إن لوحة الأخوين بيليني تصور الاختلاط بين المجتمعات والثقافات في مشهد يستحضر كلا من الكنيسة الغربية والسوق الشرقية. فاللوحة عبارة عن مزيج من عالمين: المعاصر والكلاسيكي. ففي الوقت نفسه الذي تستحضر فيه عالم الإسكندرية في القرن الأول الميلادي وحياة القديس مرقص، يحرص الفنانان أيضا على تصوير علاقة فينيسيا بالإسكندرية المعاصرة لها في أواخر القرن الخامس عشر. ونظرا لأن الفنانين كانا قد كلفا برسم قصة من تاريخ القديس راعي فينيسيا، فإنهما يصوران القديس مرقص في محيط يتعرف عليه الكثير من أهل فينيسيا الأثرياء وذوي النفوذ. وهذه صفة معروفة عن فن وأدب عصر النهضة: إلباس العالم المعاصر لباس الماضي كوسيلة لفهم الحاضر.
الغرب يلاقي الشرق
افتتن الأخوان بيليني بكل من أساطير وحقيقة العالم الذي يقع إلى الشرق مما ينظر إليه اليوم على أنه أوروبا عصر النهضة. فلوحتهما تهتم بالطبيعة المحددة للعالم الشرقي، وعلى وجه الخصوص العادات والهندسة المعمارية وثقافة الإسكندرية العربية التي كانت واحدة من الشركاء التجاريين لفينيسيا لفترة طويلة. كما أن الأخوين بيليني لم ينبذا المماليك في مصر أو العثمانيين أو الفرس معتبرين إياهم همجيين، وإنما كانا على دراية تامة بأن هذه الثقافات تمتلك الكثير من الأمور التي كانت دويلات المدن الأوروبية ترغب فيها. وشملت هذه الأمور السلع الثمينة، والمعرفة التقنية والعلمية والفنية، فضلا عن طرق إنجاز الأعمال التي أتت من الشرق. إن لوحة القديس مرقص في الإسكندرية تظهر كيف أن النهضة الأوروبية بدأت في تعريف نفسها لا بمواجهة الشرق، وإنما من خلال عملية تبادل مكثفة ومعقدة للأفكار والمواد.
Неизвестная страница
كان أهل فينيسيا المعاصرون للأخوين بيليني واضحين فيما يخص اعتمادهم على مثل هذه المعاملات. فقد كانت فينيسيا في موقع الوسيط التجاري المثالي، وكانت قادرة على الحصول على هذه السلع من الأسواق الشرقية، ثم نقلها إلى أسواق شمال أوروبا. وفي نفس الوقت الذي رسم فيه الأخوان بيليني لوحة القديس مرقص، كتب كانون بييترو كاسولا معبرا بدهشة عن أثر هذا التدفق للبضائع من الشرق على فينيسيا نفسها قائلا:
بالفعل يبدو كما لو أن كل العالم يندفع أفواجا إلى هنا، وكما لو أن كافة البشر قد ركزوا هناك كل ما لديهم من قوة للتجارة ... فمن ذا الذي يمكنه أن يحصي المحلات التجارية الكثيرة المملوءة بالبضائع، حتى كادت أن تبدو كمستودعات تحتوي على الكثير من الملابس من كل صنعة: النسيج، والأقمشة المطرزة، والستائر من كل تصميم، والسجاد من كل نوع، وأوبار الجمال [البسط] من كل لون، وكل ملمس؛ والحرير من كل نوع، وهذا العدد الهائل من محلات البقالة، والتوابل والأدوية، والكثير من الشموع الجميلة! إن هذه الأشياء تخلب لب الناظر.
كانت التجارة في هذه السلع بين الشرق والغرب تتم في مختلف أنحاء البحر المتوسط لقرون عديدة، ولكن زاد حجمها بعد نهاية الحروب الصليبية. وبداية من القرن الرابع عشر، حاربت فينيسيا منافسيها مثل جنوة وفلورنسا لترسي هيمنتها على التجارة من البحر الأحمر والمحيط الهندي وانتهاء في الإسكندرية. وتأسست المراكز التجارية والقنصليات التابعة لفينيسيا وجنوة في الإسكندرية ودمشق وحلب، بل وأبعد من ذلك. وبينما كانت أوروبا تصدر في الغالب البضائع غير المعبأة مثل المنسوجات والأخشاب والأواني الزجاجية والصابون والورق والنحاس والملح والفضة والذهب، فإنها كانت تميل إلى استيراد السلع الفاخرة والقيمة. وتراوحت هذه السلع من البهارات (الفلفل الأسود وجوزة الطيب والقرنفل والقرفة) والقطن والحرير والساتان والمخمل والسجاد، إلى الأفيون والخزامى وخشب الصندل والخزف الصيني والخيول وعشب الراوند والأحجار الكريمة، وكذلك الأصباغ الزاهية المستخدمة في صناعة الغزل والنسيج وفي الرسم.
كان تأثير ذلك على ثقافة واستهلاك المجتمعات من فينيسيا إلى لندن تدريجيا ولكنه كان عميقا؛ إذ تأثرت به مجالات الحياة كافة، من المأكل إلى الرسم. وكما تغير الاقتصاد المحلي مع هذا التدفق من السلع الغريبة، فكذلك طرأ هذا التغير على الفن والثقافة. فتوسعت لوحة ألوان الرسامين مثل الأخوين بيليني من خلال إضافة أصباغ مثل الأزرق السماوي والقرمزي والأحمر الزاهي، وجميعها ألوان تم استيرادها من الشرق عن طريق فينيسيا، وزودت لوحات عصر النهضة بدرجات لوني الأزرق والأحمر التي تميزها. وقد عكست التفاصيل الرقيقة - التي أظهرت بها لوحة الأخوين بيليني المسماة «القديس مرقص» الحرير والمخمل ونسيج الموسلين والقطن والقرميد والسجاد، وحتى الحيوانات - وعي الفنانين بالكيفية التي غيرت بها هذه المبادلات مع الشرق من المشاهد والروائح والأذواق في العالم، وكذلك قدرة الفنان على إعادة إنتاجها.
وكانت أسواق الشرق بالقاهرة وحلب ودمشق أيضا مسئولة عن تشكيل البنية المعمارية لفينيسيا في عصر النهضة. فقد وصف المؤرخ الفني الفينيسي جوزيبي فيوكو فينيسيا باعتبارها «سوقا ضخمة». ومؤخرا لاحظ المؤرخون المعماريون كيف أن العديد من الخصائص المعمارية للمدينة كانت قائمة على المحاكاة المباشرة للتصميم والديكور الشرقي. فسوق ريالتو بمبانيها المتراصة في خط مستقيم، والمرتبة بالتوازي مع الطرق الرئيسية؛ مماثلة بشكل مذهل لتخطيط العاصمة التجارية السورية حلب. كما أن النوافذ والأقواس والواجهات المزينة لقصر دوج وقصر دوكالي مستوحاة من المساجد والأسواق والقصور في مدن مثل القاهرة وعكا وتبريز، حيث كان تجار فينيسيا يتاجرون على مدار عدة قرون. لقد كانت فينيسيا مدينة متطورة في عصر النهضة، ليس فقط للمزيج بين التجارة والترف الجمالي، ولكن أيضا لإعجابها بالثقافات الشرقية ومحاكاتها لها.
حسابات دائنة ومدينة
كان من بين سمات عصر النهضة ظهور أسلوب جديد للتعبير عن الثروة، وما يرتبط بذلك من استهلاك للسلع الكمالية. وقد ناقش المؤرخون الاقتصاديون والسياسيون بقوة أسباب التغيرات في الطلب والاستهلاك بداية من القرن الرابع عشر وما تلاه. ويتعارض الاعتقاد في ازدهار روح عصر النهضة مع الاعتقاد السائد بأن القرنين الرابع عشر والخامس عشر قد شهدا فترة كساد اقتصادي عميق، فانهارت الأسعار وتراجعت الأجور. وما كان لتفشي وباء الموت الأسود في عام 1348 سوى أن زاد من حدة هذه المشكلات. ومع ذلك، فكما هو الحال في حالة الحرب، فإنه غالبا ما يكون من بين تبعات انتشار المرض والموت على نطاق واسع؛ إحداث تغيير اجتماعي جذري واضطرابات، وكان هذا هو حال أوروبا في أعقاب الطاعون. وبالإضافة إلى المرض، عصفت الحروب بالمنطقة. فكان هناك الصراع الإسلامي المسيحي في إسبانيا وشمال أفريقيا (1291-1341)، والحروب التي دارت رحاها بين فينيسيا وجنوة (1291-1299، 1350-1355، 1378-1381)، وحرب المائة عام التي طالت شمال أوروبا كله (1336-1453)، والتي أثرت جميعها سلبا على التجارة والزراعة، وخلقت نمطا متكررا من التضخم والانكماش. وكان من بين تبعات كل هذا الموت والمرض والحروب التركيز على الحياة الحضرية، وتراكم الثروة في يد نخبة صغيرة شديدة الثراء.
وكما هو الحال في معظم فترات التاريخ، فحيث يواجه بعض الناس الكساد وتدهور الأحوال، يرى البعض الآخر الفرصة والثروة. فقد استفادت دول مثل فينيسيا من الطلب المتزايد على السلع الكمالية، وطورت وسائل جديدة لنقل كميات أكبر من البضائع. فتدريجيا حلت السفن الثقيلة ذات القيعان المستديرة والصواري محل القوارب الأقدم والسفن الصغيرة التي تعمل بالمجاديف. وأصبحت هذه السفن الكبيرة تستخدم في نقل البضائع الضخمة مثل الخشب والحبوب والملح والأسماك والحديد بين موانئ شمال أوروبا. وكانت هذه السفن قادرة على نقل أكثر من 300 «برميل» من البضائع (البرميل الواحد يساوى 900 لتر)؛ أي ما يزيد عن ثلاثة أضعاف حمولة السفن القديمة. وبنهاية القرن الخامس عشر، تم بناء المركب الشراعي ذي الصواري الثلاث بناء على تصاميم عربية، وكانت حمولته تصل إلى 400 برميل من البضائع، وكان أسرع بكثير من السفن القديمة.
وهكذا، مع ازدياد حجم البضائع وسرعة توزيعها، تغيرت كذلك سبل إتمام الصفقات التجارية. وبينما تبدو لنا تعقيدات تحقيق التوازن بين الواردات والصادرات لكل من السلع العالمية الأساسية والكمالية وحساب الائتمان والربح وسعر الفائدة؛ مألوفة للغاية بالنسبة لنا اليوم؛ فإنه من السهل أن نرى لماذا غالبا ما يشار إلى عصر النهضة بأنه كان مهد الرأسمالية الحديثة. فكما كان التجار الأوروبيون المسيحيون يتاجرون في السلع غير العادية القادمة من الشرق، فإنهم قاموا أيضا بإدخال طرق ممارسة الأعمال التجارية العربية والإسلامية من خلال زياراتهم للأسواق والمراكز التجارية في جميع أنحاء شمال أفريقيا والشرق الأوسط وبلاد فارس.
ففي القرن الثالث عشر، قام تاجر من بيزا يدعى ليوناردو بيزان - والمعروف باسم فيبوناتشي - باستخدام معرفته التجارية بالطرق العربية لحساب الربح والخسارة في إدخال الأرقام الهندية-العربية إلى التجارة الأوروبية. فأوضح فيبوناتشي طبيعة الأرقام الهندية-العربية من «0» إلى «9»، واستخدام الفاصلة العشرية، وتطبيقها على المسائل التجارية العملية التي تشمل الجمع والطرح والضرب والقسمة، وقياس الأوزان والمقاييس، بالإضافة إلى المقايضة وتحصيل الفوائد وتبادل العملات. وبينما قد تبدو هذه الأمور بديهية اليوم، فإنه يجدر بنا أن نتذكر أن علامات الجمع (+) والطرح (−) والضرب (×) لم تكن معروفة في أوروبا قبل القرن الخامس عشر.
Неизвестная страница
وهذا النوع من الممارسة التجارية العربية الذي استعاره فيبوناتشي اعتمد على تطورات عربية سابقة في الرياضيات وعلم الهندسة. فعلى سبيل المثال، تم اعتماد المبادئ الأساسية لعلم الجبر من مصطلح عربي للتعويض يسمى الجبر. وفي حوالي عام 825م، قام عالم الفلك الفارسي أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي بتأليف كتاب تضمن قواعد حسابية للنظام العشري سماه «كتاب الجبر والمقابلة». وأصبحت الترجمة اللاتينية لاسمه أساسا لمزيد من الدراسة لواحد من أهم الموضوعات الرياضية الحديثة: الخوارزمية.
اعتمدت المراكز التجارية في فينيسيا وفلورنسا وجنوة الأساليب الجديدة التي قدمها فيبوناتشي؛ حيث أدركوا أن هناك حاجة لوسائل جديدة لتتبع المعاملات التجارية الدولية التي تزداد تعقيدا. فقد كان سداد قيمة السلع غالبا ما يتم بسبائك من الفضة أو الذهب، ولكن مع زيادة المبيعات وارتباط أكثر من شخصين في الصفقة التجارية الواحدة، أصبحت هناك حاجة إلى طرق تجارية جديدة. وكانت الكمبيالة واحدة من أهم الابتكارات في هذا المجال، حيث كانت نوعا مبكرا من الأوراق المالية. وكانت الكمبيالة هي سلف الشيك بشكله الحديث، ونشأت من المصطلح العربي الذي كان يستخدم في العصور الوسطى «الصك». فأنت الآن عندما تقوم بتحرير شيك، تعتمد على الجدارة الائتمانية لك في أحد البنوك؛ فيقبل البنك هذا الشيك عندما يقدمه حامله للسداد، وبالمثل، كان التاجر في القرن الرابع عشر يدفع قيمة شحنة من البضائع عن طريق كمبيالة معتمدة من قبل عائلة تجارية قوية تقبل الكمبيالة عندما تقدم إليها، سواء في تاريخ لاحق محدد أو عند تسليم البضائع. وسرعان ما تحول أفراد عائلات التجار التي كانت تضمن هذه المعاملات الورقية إلى مصرفيين وتجار في نفس الوقت. وقام التجار، الذين تحولوا إلى مصرفيين، بكسب المال عن طريق فرض رسوم الفائدة على هذه المعاملات على أساس مقدار الوقت الذي يستغرقه سداد الكمبيالة، وكذلك من خلال التلاعب بسعر الصرف بين العملات الدولية المختلفة.
كانت الكنيسة في القرون الوسطى لا تزال تحرم الربا، الذي يعرف بأنه تقاضي فائدة ما على قرض. فالمعتقدات الدينية لكل من المسيحية والإسلام تحرم الربا رسميا، ولكن في الممارسة العملية وجدت ثغرات في كلتا الثقافتين على حد سواء لتحقيق أقصى قدر من الربح المالي، واستطاع التجار المصرفيون تمويه تقاضي الفائدة عن طريق إقراض المال بإحدى العملات ثم تحصيله بعملة مختلفة. وتبع هذه العملية وضع سعر صرف يسمح للتاجر المصرفي بتحقيق ربح من خلال نسبة مئوية من المبلغ الأصلي؛ وبهذا يحتفظ المصرفي بأموال بعض التجار «كوديعة »، على أن يوفر بذلك «ائتمانا» كافيا يمكن التجار الآخرين من قبول كمبيالات التجار الذين يودعون المال لديه، على اعتبار أن تلك الكمبيالات شكل من أشكال النقود في حد ذاتها. وكان هناك حل آخر يتمثل في توظيف التجار اليهود للتعامل مع معاملات القروض، والقيام بدور الوساطة التجارية بين أتباع الديانتين، وذلك لسبب بسيط هو أن اليهود لم يكن لديهم أي حظر ديني رسمي ضد الربا. ومن هذا الحدث التاريخي نشأت الصورة النمطية المعادية للسامية ضد اليهود، ونزعتهم المزعومة نحو التمويل الدولي، وكان ذلك نتيجة مباشرة لنفاق بعض المسيحيين وبعض المسلمين.
وقد وضعت الثروة المتراكمة ومكانة التجار المصرفيين أسس السلطة السياسية والإبداع الفني الذي كان من أبرز سمات عصر النهضة الأوروبية. وكانت أسرة ميديتشي، التي هيمنت على الساحة السياسية والثقافية في فلورنسا طوال القرن الخامس عشر، قد بدأت كتجار مصرفيين. وفي عام 1397، أنشأ جوفاني دي بيتشي دي ميديتشي «مصرف ميديتشي» في مدينة فلورنسا، الذي سرعان ما أتقن فن القيد المزدوج في مسك الدفاتر والمحاسبة والإيداع والتحويل المصرفي والتأمين البحري وتداول الكمبيالات. كما أصبح مصرف ميديتشي «المصرف الخادم للرب»، وذلك عن طريق تحويل الأموال البابوية في جميع أنحاء أوروبا. وبحلول عام 1429، قال الباحث في العلوم الإنسانية والمستشار الفلورنسي بوجيو براشيوليني بأن «المال ضروري كالأواصر التي تحفظ كيان الدولة»، وأنه «مفيد للغاية، بالنسبة للرفاهية العامة وللحياة المدنية». وبعد أن درس تأثير التجارة والتبادل التجاري على المدن حق له أن يحتفي «بالعديد من المنازل الرائعة والفيلات المتميزة والكنائس والأعمدة والمستشفيات التي تم بناؤها في عصرنا» بالأموال التي جمعتها عائلة ميديتشي.
الشرق يلتقي بالغرب
شكلت التجارة الدولية والممارسات المالية الجديدة ملامح ما كان يصنعه الناس وما يستهلكونه طوال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. ففي عام 1453، انتهت حرب المائة عام بين إنجلترا وفرنسا. وكانت إحدى نتائج السلام تكثيف التجارة بين شمال وجنوب أوروبا. وعلى الطرف الآخر من أوروبا شهد عام 1453 حدثا تاريخيا آخر لا يقل أهمية عن انتهاء الحرب؛ حيث قامت الإمبراطورية العثمانية الإسلامية بغزو القسطنطينية. وقد شكل سقوطها في يد القوات العثمانية تحولا حاسما في القوة السياسية الدولية؛ إذ أكد ذلك على مكانة الإمبراطورية العثمانية كواحدة من أقوى الإمبراطوريات في أوروبا، ولاعب أساسي في تشكيل الفن والثقافة اللاحقين في عصر النهضة.
ففي ربيع عام 1453، ضرب أكثر من 100 ألف جندي حصارا على القسطنطينية، وفي مايو من العام نفسه، استولى السلطان محمد الفاتح الثاني على المدينة. فنظرا لأن القسطنطينية كانت عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، فإنها كانت من آخر الروابط بين عالم روما الكلاسيكية وإيطاليا القرن الخامس عشر. كانت بمثابة قناة لاسترداد الجزء الأكبر من تعاليم الثقافة الكلاسيكية، ويرجع الفضل في ذلك أساسا لرعاية السلطان محمد؛ فقد قاده ارتباطه بالطموحات السياسية وانجذابه نحو الأذواق الثقافية لنظرائه الإيطاليين إلى توظيف متخصصين إيطاليين في الإنسانيات، ليقوموا «بالقراءة على السلطان يوميا من أعمال المؤرخين القدماء مثل ليريتيوس وهيرودوت وليفي وكوينتس كورتيوس، ومن سجلات البابوات، وملوك لومبارد»، فإذا كان عصر النهضة قد تضمن إحياء المثل والمبادئ الكلاسيكية، فإن محمدا الفاتح كان واحدا من أنصارها. فمكتبته التي لا يزال الكثير منها محفوظا في قصر الباب العالي (أو طوب قابي سراي) في إسطنبول، تفوقت على مثيلتها التي كانت في حوزة آل ميديتشي وسفورزا في إيطاليا، واحتوت مكتبته نسخا من جغرافيا بطليموس، وإلياذة هوميروس، وغيرها من النصوص الإغريقية والعبرية والعربية. لقد كان يقارن صراحة إنجازاته الإمبراطورية بإنجازات الإسكندر الأكبر، وكان يرى نفسه قيصرا جديدا، يتمتع بالقدرة على غزو روما، وتوحيد الديانات الكتابية الكبرى الثلاث: المسيحية والإسلام واليهودية.
على غرار العديد من قادة عصر النهضة الآخرين ممن لهم تطلعات إلى السلطة الإمبراطورية، استخدم محمد الفاتح العلم والفن والهندسة المعمارية ليزيد من مطالباته بسلطة سياسية مطلقة. فشرع في تنفيذ برنامج طموح للبناء تضمن إعادة التجار اليهود والمسيحيين والحرفيين ليسكنوا في المدينة، وأسس البازار الكبير الذي رسخ المكانة الرفيعة للمدينة كمركز تجارة دولي، كما غير اسم المدينة إلى إسطنبول، وقام بتجديد كنيسة آيا صوفيا، وحولها إلى أول مسجد سلطاني بالمدينة، وفي الوقت نفسه تعاقد مع مهندسين معماريين إيطاليين للمساعدة في بناء قصره الإمبراطوري الجديد، قصر الباب العالي. وكان الأسلوب المعماري الدولي الجديد - الذي كان قائما على الأنماط الكلاسيكية والإسلامية والإيطالية المعاصرة - يهدف إلى إنتاج ما أطلق عليه معلق عثماني «قصر يتفوق على ما دونه من القصور، ويكون أكثر روعة من جميع القصور السابقة من حيث المظهر والحجم والتكلفة والجمال». وسيصبح هذا الطراز العالمي الذي ولد في عصر النهضة محل تقدير لدى كل من المسلمين والمسيحيين على حد سواء، وهو ما أكده سفير فينيسيا، الذي أشاد بقصر الباب العالي باعتباره «القصر الأكثر جمالا، والأكثر تنعما بوسائل الراحة، والأكثر إعجازا في العالم». وعلى غرار الكثير من المباني والأعمال الفنية في عصر النهضة، كان قصر الباب العالي عملا إبداعيا أصيلا، ورمزا سياسيا من الطراز الأول في الوقت نفسه. ولا يمكن فصل الدافعين بعضهما عن بعض، فقد كانت تلك هي السمة المميزة لعصر النهضة.
لقد حفز ذلك التسابق الدولي بين الدول والإمبراطوريات الشرقية الغربية جيلا جديدا كاملا من المفكرين والكتاب والفنانين في عصر النهضة. وقدم العديد منهم خدماتهم لمحمد الفاتح، بما في ذلك الرسام الفينيسي جنتيلي بيليني الذي رسم صورة لمحمد الفاتح لا تزال معلقة في المتحف الوطني في لندن. وقد عاد بيليني إلى فينيسيا محملا بالهدايا من محمد الفاتح، و«سلسلة مشغولة على الطريقة التركية، تساوي في الوزن 250 كراونا من الذهب». وفي لوحة «القديس مرقص يعظ في الإسكندرية»، عند سفح منبر القديس مرقص رسم جنتيلي بيليني نفسه، حيث تدلت حول عنقه السلسلة التي أهداها له محمد الفاتح. لقد عرض بيليني بفخر ثمار رعاية محمد الفاتح له، واستخدم خبراته في إسطنبول ليضيف تفاصيل مميزة لتصويره للإسكندرية.
وسرعان ما أثر هذا التبادل على أسلوب ما نسميه الآن بفن عصر النهضة. فعندما ذهب الفنان الإيطالي كوستانزو دا مويسيز أيضا إلى إسطنبول للعمل لدى محمد الفاتح، استلهم لوحاته ورسوماته من التقاليد الفنية لكل من الفن الفارسي والفن العثماني. وما الرسم الذي تم تنفيذه بالقلم وألوان الجواش بعنوان «الكاتب الجالس» - والذي ينسب إلى كوستانزو - إلا دراسة عميقة لكاتب عثماني، وقد اكتمل الرسم بنقش لكلمات فارسية في الزاوية اليمنى العليا منه. وإن استخدام ألوان زاهية مسطحة، والعناية بأدق التفاصيل في الجلسة والملبس والتصميم، يظهر مدى استيعاب كوستانزو للمبادئ المختلفة للأساليب الفنية الصينية والفارسية والعثمانية. ويمكن ملاحظة التأثير المتبادل في كلا الاتجاهين في نسخة رائعة من رسم كوستانزو تنسب إلى الفنان الفارسي بهزاد الذي عاش في القرن الخامس عشر، والتي تحمل عنوان «بورتريه لرسام في زي تركي»، والتي رسمت بعد عدة سنوات من رسم كوستانزو. لقد تعلم بهزاد من الفنان الإيطالي المعاصر له، ولكنه غير بمهارة شخصية الكاتب إلى رسام، والذي يصوره وهو يعمل على نوع التصوير الفني الإسلامي الذي نسخه كوستانزو في الأساس. لقد استلهم كل فنان منهما عمله من الابتكارات الجمالية للفنان الآخر، مما يجعل من المستحيل الفصل في أي اللوحتين تحديدا «غربية»، وأيهما «شرقية».
Неизвестная страница
شكل 1-2: رائعة كوستانزو دا مويسيز: «الكاتب الجالس».
2
جاء صعود السلطان سليمان القانوني على العرش عام 1520 ليكثف التبادل الفني والدبلوماسي. فقد استجلب سليمان المفروشات الفاخرة التي من صنع النساجين الفلمنكيين، والمجوهرات والتاج الإمبراطوري من صائغي المشغولات الذهبية في فينيسيا، والتي كان يرتديها عندما فرض الحصار على فيينا في 1532، وكلف المهندس المعماري العثماني العظيم معمار كوكا سنان لبناء سلسلة من القصور والمساجد والجسور لمنافسة تلك التي لدى نظرائه الإيطاليين. فاستوحى سنان التصميمات من التقاليد المعمارية التركية الإسلامية، وكذلك التراث البيزنطي الذي قدمته كنيسة آيا صوفيا العظيمة لبناء سلسلة من المساجد في إسطنبول، بمخططات مركزية مقببة في أوائل القرن السادس عشر. وعندما عين البابا يوليوس الثاني المهندسين المعماريين دوناتو برامانتي، ولاحقا مايكل أنجلو من أجل إعادة بناء كنيسة القديس بطرس في روما، استلهما تصميماتهما من تصميم آيا صوفيا ذات القباب النصفية وأبراج المنارات، وكذاك من المساجد والقصور التي صممها سنان. لقد كان المهندسون المعماريون العثمانيون والإيطاليون يتنافسون من أجل إعادة بناء المدن الإمبراطورية اعتمادا على تقاليد فكرية وجمالية مشتركة.
شكل 1-3: القطعة الفنية الفارسية الرائعة لبهزاد «بورتريه لرسام».
3
ما تشير إليه هذه المبادلات والمنافسات هو أنه لم تكن هناك حواجز جغرافية أو سياسية واضحة بين الشرق والغرب في عصر النهضة. ولقد كان ذلك الاعتقاد الذي ظهر في القرن التاسع عشر بالفصل الثقافي والسياسي المطلق بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي هو ما طمس التبادل السهل للتجارة والأفكار بين هاتين الثقافتين. لقد انغمس الجانبان في كثير من الأحيان في صراعات دينية وعسكرية مع بعضهما البعض، ومع ذلك فقد استمر التبادل المادي والتجاري بينهما، رغم تلك الصراعات، وتمخض عن بيئة خصبة للإنجازات الثقافية في كلا الجانبين. كما أدى تراثهم الثقافي المشترك من الماضي الكلاسيكي التنافسي إلى تحقيق إنجازات جديدة نقول عنها الآن عصر النهضة.
رياح التغيير
بدلا من قطع التواصل الثقافي بين الشرق والغرب، قامت الإمبراطورية العثمانية فور السيطرة على القسطنطينية بفرض ضريبة على هذه المبادلات. فقد فرضت السلطات العثمانية ضريبة على طرق التجارة البرية إلى بلاد فارس وآسيا الوسطى والصين، لكن هذا أدى إلى إيجاد وسائل جديدة لممارسة الأعمال التجارية. فقد حفز انتهاء حرب المائة عام تبادلا تجاريا أكبر بين شمال وجنوب أوروبا، مما تمخض عنه زيادة الطلب على السلع غير العادية من الشرق. وهذا بدوره أدى إلى زيادة حجم التبادل التجاري، كما أدى إلى سعي الدول الأوروبية المسيحية لإيجاد طرق للتحايل على الرسوم الجمركية الباهظة. وكان ثمن معظم البضائع الشرقية يسدد بسبائك الذهب والفضة الأوروبية. وعندما بدأت المناجم في وسط أوروبا في النضوب وبدأت التعريفات الجمركية في الازدياد، ظهرت الحاجة لمصادر جديدة للعائدات؛ وقد أدى هذا مباشرة إلى زيادة الاستكشاف الجغرافي والاكتشافات.
لعدة قرون، كان الذهب ينتقل إلى أوروبا عبر شمال أفريقيا وطرق القوافل عبر الصحراء الكبرى. فكان الذهب المستخرج من المناجم في السودان ينقل على طول هذه الطرق إلى تونس والقاهرة والإسكندرية، حيث كان يبادله التجار الإيطاليون بالسلع الأوروبية. ومن بداية القرن الخامس عشر أدركت الإمبراطورية البرتغالية والتجار أن السفر بالطرق البحرية على طول الساحل الأفريقي يمكن أن يوصلهم إلى أسواق الذهب والتوابل في مصادرها الأصلية، مع تجنب الضرائب المفروضة على طرق التجارة البرية خلال الأراضي العثمانية . وقد تطلب مثل هذا المشروع الطموح تنظيما ورأس مال. وبحلول منتصف القرن الخامس عشر، كان التجار من ألمانيا وفلورنسا وجنوة وفينيسيا يسيرون رحلات بحرية برتغالية على طول ساحل غرب أفريقيا، ويقدمون نسبة مئوية من الأرباح للملك البرتغالي.
ومع ذلك، لم يكن الذهب وحده يتدفق عائدا مرة أخرى إلى أوروبا من خلال طرق التجارة الأفريقية. فأثناء السفر خلال مملكة زعيم يسمى بودوميل في جنوب السنغال، قام التاجر الفينيسي ألفيس كاداموستو بمقايضة سبعة خيول «كلفتني كلها 300 عملة ذهبية» - على حد قوله - بمائة من العبيد. كانت هذه الصفقة مربحة للتاجر الفينيسي، على أساس سعر صرف مقبول قدره من 9 إلى 14 عبدا لكل حصان (وتشير التقديرات إلى أنه في ذلك الوقت كان يعيش في فينيسيا أكثر من 3000 من العبيد). وكتب كاداموستو في عام 1446، أنه من المقدر أن 1000 من العبيد يتم شحنهم من منطقة أرجين كل عام. فكانوا ينقلون إلى لشبونة ليتم بيعهم في جميع أنحاء أوروبا. وكانت هذه التجارة تمثل واحدا من أسوأ جوانب عصر النهضة الأوروبية، وشكلت بداية تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي التي ستجلب البؤس والمعاناة للملايين من الأفارقة خلال القرون اللاحقة. ومن الضروري أن نلاحظ كيف أن الاقتصادات التي مولت الإنجازات الثقافية الكبرى في عصر النهضة كانت تتربح من هذه التجارة غير الأخلاقية في الأرواح البشرية.
Неизвестная страница
شكل 1-4: أول نموذج حديث للكرة الأرضية، صنع في نورمبرج في عام 1492 على يد التاجر الألماني مارتن بيهايم عقب عودته من غرب أفريقيا.
4
شكل 1-5: ملاحة برتغالية-بينية صممها رحالة برتغاليون في وقت مبكر من القرن السادس عشر، ونحتها حرفيون أفارقة. والنتيجة عمل فني جديد تماما في عصر النهضة.
5
كان للواردات الأفريقية، من ذهب وفلفل وقماش وعبيد، التي تدفقت إلى أوروبا - جنبا إلى جنب مع البضائع المستوردة من الشرق - أثرها في غرس بذور التفاهم العالمي في أوائل العصر الحديث. ففي عام 1492، عشية رحلة كولومبوس الأولى إلى العالم الجديد، ابتكر تاجر القماش الألماني مارتن بيهايم شيئا جسد اندماج الاقتصاد العالمي مع الابتكار الفني الذي أصبح سمة متزايدة لذلك الوقت ؛ وكان هذا الشيء هو أول مجسم معروف للكرة الأرضية. واحتوت كرة بيهايم على أسماء أكثر من 1100 من الأماكن، وعلى أكثر من 48 تمثيلا مصغرا للملوك والحكام، كما احتوت أيضا على بعض الأساطير التي تصف البضائع والممارسات التجارية وطرق التجارة. وقد كانت هذه الكرة هي الخريطة التجارية للعالم في عصر النهضة، والتي صنعها شخص كان تاجرا وجغرافيا. وقد سجل بيهايم تجاربه التجارية الخاصة في غرب أفريقيا بين عامي 1482 و1484، وأعطت تلك التجارب بعض المؤشرات على دوافعه للقيام بتلك الرحلات. فقد أبحر «مع مختلف السلع والبضائع للبيع والمقايضة»، بما في ذلك الخيول «لتقديمها الى الملوك المغاربة»، وكذلك «أمثلة مختلفة من التوابل لعرضها على الأندلسيين لكي يفهموا ما نريد من بلادهم». وكانت التوابل والذهب والعبيد هي السلع الأساسية التي قامت عليها نشأة أول صورة عالمية حقيقية للعالم في عصر النهضة.
لم تكن مثل هذه التأثيرات الثقافية والتجارية في اتجاه واحد فقط؛ فقد أشار مؤرخ برتغالي إلى أنه «كان الرجال في سيراليون شديدي الذكاء، وكانوا يصنعون أشياء جميلة للغاية مثل الملاعق والملاحات ومقابض الخناجر»، وهذه إشارة مباشرة إلى «الأعمال العاجية الأفروبرتغالية»، وكانت هذه الأعمال الفنية التي نحتها فنانون أفارقة من سيراليون ونيجيريا، تدمج الأسلوب الأفريقي مع التصميمات الأوروبية لإنشاء أغراض هجينة فريدة من نوعها لكل من الثقافتين. وكانت الملاحات وأبواق الصيد بصفة خاصة أمثلة شائعة لهذه المنحوتات، وكانت تمتلكها شخصيات شهيرة مثل ألبريشت دورر، وعائلة ميديتشي. وإحدى الملاحات المذهلة بوجه خاص، والتي يرجع تاريخها إلى وقت مبكر من القرن السادس عشر، كانت تصور أربع شخصيات برتغالية يحملون سلة تبحر عليها سفينة برتغالية، ولإضافة لمسة من الفكاهة على النحت يظهر بحار من منصة المراقبة في السفينة. ومن الواضح أنه تم رسم تفاصيل الملابس والأسلحة وحبال الأشرعة بناء على مراقبة مفصلة، ولقاءات مع البحارة البرتغاليين. ويعتقد الباحثون أنه تم تصميم هذه المنحوتات للتصدير إلى أوروبا. وقد أثرت ملامح هذه المنحوتات المطرزة والمضفرة والملتوية برقة بشكل كبير في فن العمارة في البرتغال في القرن السادس عشر، حين بدأت البرتغال في تشييد معالم تذكارية تحتفي بقوتها التجارية في أفريقيا والشرق الأقصى.
هوامش
الفصل الثاني
نصوص الحركة الإنسانية
في نوفمبر عام 1466، وجد جورج من تريبيزوند - وهو أحد ألمع الباحثين الإنسانيين في القرن الخامس عشر - نفسه قابعا في أحد سجون روما بناء على أوامر البابا بولس الثاني. منذ وصول جورج إلى فينيسيا كباحث يتحدث اللغة اليونانية قبل 50 عاما، كان قد أثبت مكانته كممارس بارع للفنون الفكرية والتعليمية الجديدة في ذلك العصر، مستوحيا أفكاره من المؤلفين الكلاسيكيين من اليونان وروما. وسرعان ما سطع نجم جورج - مستخدما مهاراته في اللغتين اليونانية واللاتينية - بنشر كتب دراسية عن علم البلاغة والمنطق، علاوة على شروحات وترجمات لمؤلفات أرسطو وأفلاطون.
Неизвестная страница
وبحلول عام 1450، كان جورج قد أصبح سكرتيرا باباويا، ومحاضرا بارزا في منهج الإنسانيات الجديد المشهور باسم الدراسات الإنسانية، وذلك في ستوديو رومانو تحت رعاية البابا نيكولاس الخامس. ولكن بدأ الباحثون الأصغر سنا في مجال الإنسانيات في نقد ترجمات جورج. وفي عام 1465، توجه جورج إلى عاصمة محمد الفاتح الجديدة إسطنبول؛ القسطنطينية فيما سبق. ونظرا لأن جورج كان على دراية باهتمامات محمد الفاتح الدراسية، فقد كتب مقدمة لعالم الجغرافيا اليوناني الكلاسيكي بطليموس وأهداها إلى السلطان، «معتقدا أنه لا شيء أفضل في الحياة الحالية من خدمة ملك حكيم، وإنسان يتفلسف بخصوص المسائل الكبرى». كما أهدى جورج مقارنته بين أرسطو وأفلاطون إلى السلطان، وعاد إلى روما لصياغة سلسلة من الخطابات إلى محمد الفاتح، زاعما أنه «لم يشهد التاريخ من قبل ولن يشهد إنسانا آخر منحه الله فرصة أعظم للسيطرة المنفردة على العالم». وفي خطاباته وإهداءاته البلاغية المؤثرة، كان من الواضح أن جورج يرى محمدا الفاتح راعيا مناسبا لمهاراته الأكاديمية. وبمجرد أن علم البابا بمغازلة جورج الفكرية للسلطان، لم يرق له ذلك وقام بسجنه. لكن مدة سجنه كانت وجيزة، وبعد مهمة محددة له في بودابست عاد جورج إلى روما ليجد كتبه عن البلاغة والجدل تنتعش من جديد نتيجة توزيعها عبر اختراع جديد: ألا وهو آلة الطباعة.
يتناول هذا الفصل ظهور أحد أكثر المصطلحات الفلسفية تعقيدا وإثارة للجدل؛ ألا وهو الحركة الإنسانية في عصر النهضة، وعلاقته الوثيقة بأحد أهم التطورات التكنولوجية في العالم قبل الحديث؛ اختراع آلة الطباعة. كان الشيء الذي وحد بين هذين التطورين هو الكتب. ففي بداية القرن الخامس عشر، كانت معرفة القراءة والكتابة والإلمام بالكتب حكرا على صفوة عالمية ضئيلة مركزة في المراكز الحضرية مثل القسطنطينية وبغداد وروما وفينيسيا. وبنهاية القرن السادس عشر، أحدثت الحركة الإنسانية وآلة الطباعة ثورة في تصورات الصفوة وعامة الناس بخصوص القراءة والكتابة ومكانة المعرفة المنقولة من خلال الكتب المطبوعة، والتي صارت مركزة بدرجة أكثر حصرية في شمال أوروبا.
تمتد سيرة حياة جورج من تريبيزوند على مدار فترة حاسمة بالنسبة لكل من النظريات الفكرية وتاريخ الكتب. ففي ذلك الوقت، طور جيل كامل من المثقفين طريقة جديدة للتعلم مأخوذة عن المؤلفين الكلاسيكيين الإغريق والرومان، يطلق عليها الدراسات الإنسانية. وأطلق هؤلاء الباحثون على أنفسهم «الإنسانيون»، واشتركوا في مهمة هائلة لفهم وترجمة ونشر وتعليم نصوص الماضي كوسيلة لفهم وتغيير حاضرهم. وبالتدريج حلت الحركة الإنسانية في عصر النهضة مكان التقليد الدراسي في العصور الوسطى الذي انبثقت منه. وبطريقة منظمة، عززت دراسة الأعمال الكلاسيكية بصفتها مفتاح خلق الفرد الناجح المهذب المتحضر، الذي استخدم هذه المهارات للنجاح في سياق عالم الحياة اليومية في السياسة والتجارة والدين.
يكمن نجاح الحركة الإنسانية في زعمها بتقديم أمرين لأتباعها: الأول هو أنها عززت الاعتقاد القائل بأن التفوق في الكلاسيكيات يجعلك إنسانا أفضل وأكثر «إنسانية»، وقادرا على التفكير في المشكلات المعنوية والأخلاقية التي كان يواجهها الفرد فيما يتعلق بعالمه الاجتماعي. أما الأمر الثاني فهو أنها أقنعت الطلاب والموظفين بأن دراسة النصوص الكلاسيكية قدمت المهارات العملية المطلوبة لمهنة مستقبلية، مثل السفير أو المحامي أو الكاهن أو السكرتير، في إطار طبقات من الإدارة البيروقراطية، التي بدأت في الظهور في أوروبا خلال القرن الخامس عشر. وكان ينظر إلى التدريب في الترجمة وكتابة الخطابات والخطابة العامة على يد الإنسانيين باعتباره تعليما رائجا بدرجة عالية بالنسبة لمن أرادوا الانضمام إلى طبقات الصفوة الاجتماعية .
يبدو هذا منفصلا بدرجة كبيرة عن الصورة الرومانسية المثالية عن الإنسانيين الذين ينقذون كتب الثقافة الكلاسيكية العظيمة، ويستلهمون حكمتهم في خلق مجتمع متمدن، لكن هذه هي الحقيقة. فالحركة الإنسانية في عصر النهضة كان لها هدف براجماتي يتمثل في توفير إطار عمل للتقدم المهني، ولا سيما إعداد الرجال للحكم. ويرتكز تعليم الإنسانيات الحديثة على النموذج نفسه (المصطلح نفسه مشتق من التعبير اللاتيني: الدراسات الإنسانية). فهو يعد بنفس الفوائد، ويحتفظ بالعيوب نفسها - وإن كان هذا محل جدل. فيعتمد على افتراض أن الدراسة غير المهنية للفنون الحرة تجعلك شخصا أكثر تحضرا، وتمنحك المهارات اللغوية والبلاغية المطلوبة للنجاح في بيئة العمل. ولكن تظل هناك توترات كامنة في هذا الافتراض، وهي توترات يمكن تعقب آثارها إلى الحركة الإنسانية في عصر النهضة.
يمكن تتبع الكثير من هذه الصراعات في الحياة المهنية لجورج من تريبيزوند؛ إذ إنها تكشف أن تطور الحركة الإنسانية في عصر النهضة كان مهمة عملية شاقة فكريا، تتضمن فحص النصوص الكلاسيكية وترجمتها وتحريرها ونشرها وتعليمها. ويوحي دمج جورج لمجالات الكتابة والترجمة والتعليم بأن نجاح الحركة الإنسانية كان يتحقق بصفة أساسية في إطار الفصول الدراسية كإعداد عملي للتوظيف. وأدخلت مناهج وأساليب جديدة لتدريس المهارات المطلوبة من التعليم الإنساني، والتي تتطلب براعة فائقة. لقد كانت الحركة الإنسانية تعتمد على خلق مجتمع أكاديمي لتدريس ونشر أفكارها، ولكن أعضاءها كانوا يتصارعون كذلك حول طبيعة تطور الحركة الإنسانية واتجاهها؛ مما أدى إلى النزاعات القاسية والتنافسات المريرة التي عانى منها جورج، والتي عرضت حياته المهنية للخطر. وقامت الحركة الإنسانية بتسويق مهاراتها للصفوة الحاكمة التي تم إقناعها بتقدير الخبرة اللغوية والبلاغية والإدارية التي كان يوفرها التعليم الإنساني.
ومع ذلك، كان هذا الترويج للحركة الإنسانية يواجه غالبا المشكلات، مثلما اكتشف جورج أثناء محاولته تحويل ولائه الفكري ومهاراته الإنسانية من راع ذي نفوذ (البابا بولس الثاني) إلى آخر (محمد الفاتح). ونتيجة ذلك، ركزت الحركة الإنسانية جهودها على نشر طريقتها من خلال الفصول الدراسية، والوسيلة الثورية المتمثلة في آلة الطباعة. فقد أتاح التحالف بين الطباعة والحركة الإنسانية للباحثين توزيع نسخ موحدة لمطبوعاتهم بأعداد هائلة تفوق بكثير الإمكانات الإنتاجية لنسخ المخطوطات. وتمثل تأثير هذا الاتحاد في نهضة لاحقة في معرفة القراءة والكتابة وفي المدارس، مما تمخض عنه تأكيد غير مسبوق على التعليم كأداة للحياة المجتمعية.
محترفو الإقناع
تبدأ قصة الحركة الإنسانية في عصر النهضة بالكاتب والباحث الإيطالي في القرن الرابع عشر بيترارك. كان بيترارك وثيق الصلة بالمقر البابوي في أفينيون في فرنسا حيث كان والده يعمل موثقا عاما - وهو باحث ماهر في فن إدارة المجموعة الهائلة من الوثائق الصادرة عن الشئون الباباوية. وقد اعتمد بيترارك على هذه التقاليد الدراسية في اهتمامه بالسمات البلاغية والأسلوبية الخاصة بمجموعة من الكتاب الرومان الكلاسيكيين المهملين، لا سيما شيشرون وليفي وفيرجيل. وبدأ يجمع نصوصا مثل كتاب ليفي «تاريخ روما»، ويقارن أجزاء من مخطوطات مختلفة، ويصحح الأخطاء اللغوية، ويحاكي أسلوبها في كتابة صيغة للغة اللاتينية أكثر طلاقة من الناحية اللغوية، وأكثر إقناعا من الناحية البلاغية.
كما كان بيترارك يقلب المكتبات والأديرة بحثا عن النصوص الكلاسيكية، وفي عام 1333، اكتشف مخطوطة خطبة للسياسي والخطيب الروماني شيشرون، عنوانها «خطبة إلى أرخياس»، وكانت تناقش فضائل «الدراسات الإنسانية». وصف بيترارك الخطبة بأنها «مليئة بالإطراءات الرائعة للشعراء». وكان شيشرون شخصية حاسمة بالنسبة لبيترارك، وبالنسبة للتطور اللاحق للحركة الإنسانية؛ لأنه قدم طريقة جديدة للتفكير بخصوص كيفية دمج الفرد المثقف للجانب الفلسفي والتأملي للحياة مع بعدها الأكثر نشاطا وعمومية. وفي نصه الشهير الذي يحمل عنوان «عن الخطيب»، طرح شيشرون هذه المشكلة بمقارنة البلاغة والخطابة من ناحية، والفلسفة من ناحية أخرى. إذ يرى شيشرون أن «فن الخطابة بأكمله متاح للدراسة، ويهتم إلى حد ما بالممارسات والعادات والأحاديث العامة للجنس البشري». أما الفلسفة، من الناحية الأخرى، فتتضمن التأمل الخاص بعيدا «عن الاهتمامات العامة»، وتكون في الواقع منفصلة «عن أي نوع من الأعمال». وقد استخدم بيترارك التمييز بين العلمين الذي أوضحه شيشرون في أطروحته «الحياة المنعزلة» في مناقشته لدور الفيلسوف ودور الخطيب:
Неизвестная страница
إن تنوع أسلوب الفلاسفة في الحياة والغايات المتعارضة تماما التي يعملون من أجلها، تجعلني أومن أنهم دائما ما كانوا يفكرون بصورة مختلفة عن الخطباء. فجهود الخطباء موجهة ناحية الحصول على استحسان الجمهور، أما الفلاسفة فيجاهدون - إن لم تكن تصريحاتهم زائفة - لمعرفة أنفسهم، وإعادة الروح إلى نفسها، واحتقار المجد الأجوف.
كان مخطط الحركة الإنسانية لبيترارك كما يلي: توحيد السعي الفلسفي للحقيقة الفردية، والقدرة العملية على العمل بفعالية في المجتمع من خلال استخدام البلاغة والإقناع. وللحصول على التوازن المثالي، يحتاج الفرد المتحضر إلى تدريب صارم في علوم الدراسات الإنسانية؛ أي قواعد اللغة والبلاغة والشعر والتاريخ والفلسفة الأخلاقية.
كان هذا منطقا عبقريا منح الإنسانيين الأوائل قوة وهيبة أعظم من تلك التي تمتع بها أسلافهم من الباحثين. كانت الفلسفة المدرسية (السكولاستية) في العصور الوسطى تدرب الطلاب على اللغة اللاتينية وعلى كتابة الخطابات والفلسفة، لكن معلميها ومفكريها كانوا تابعين للسلطات (أي الكنيسة في المعتاد) التي كانوا يعملون لصالحها. وقد منح تعريف شيشرون للإنساني المتحضر - أنه ذلك الإنسان القادر على التفلسف في الأمور الإنسانية، بينما يقوم أيضا بتدريب الصفوة على مهارات الخطابة العامة والإقناع - الحركة الإنسانية وممارسيها استقلالية أكبر «لبيع» أفكارهم للمؤسسات الاجتماعية والسياسية. ومع ذلك، لم تكن الحركة الإنسانية حركة سياسية صريحة مطلقا، وذلك على الرغم من أن بعض ممارسيها كانوا سعداء للغاية بالسماح للأيديولوجيات السياسية بتبني نهجها حيثما وأينما كان ذلك مفيدا. فقد وصف الإنسانيون أنفسهم بأنهم خطباء وعلماء بلاغة ومعلمو أسلوب، وليسوا ساسة. وغالبا ما يكون من الخطأ دراسة موضوع الكتابات الإنسانية بقيمته الظاهرية فحسب؛ فمثل هذه الكتابات كانت تدريبات رسمية راقية في الأسلوب والبلاغة، وكانت تحتفي غالبا بالدفاع الجدلي في صالح وضد موضوع معين. ويكمن انتصار الحركة الإنسانية في قدرتها على استخدام مهاراتها في البلاغة والخطابة والجدل لإقناع مجموعة من الرعاة السياسيين المحتملين بفائدة خدماتها، سواء أكانوا جمهوريين أم ملكيين.
عودة إلى لوحة الرسم
بحلول منتصف القرن الخامس عشر، كانت ممارسة الحركة الإنسانية تنتشر في المدارس والجامعات والبلاط الملكي. وقد رفع تأكيدها على البلاغة واللغة من مكانة الكتاب كأداة مادية وفكرية. وكانت مراجعات الحركة الإنسانية، بخصوص كيفية الحديث والترجمة والقراءة وحتى كتابة اللغة اللاتينية، تركز بالإجماع على الكتاب بصفته الأداة المثالية المحمولة التي يمكن من خلالها نشر هذه الأفكار. ولكن كيف كانت هذه المثل الإنسانية تعمل في مجال الممارسة العملية؟ يظهر أحد الأمثلة الواضحة بصفة خاصة على الفجوة بين نظرية الحركة الإنسانية وممارستها في الفصول الدراسية من الحياة المهنية لأحد أكثر المعلمين الإنسانيين احتراما؛ وهو جوارينو جواريني من فيرونا (1374-1460). كان جوارينو موظفا لدى عائلة إيستي في فيرارا، حيث كان يحاضر بصفته أستاذا للبلاغة منذ عام 1436.
وكان نجاح جوارينو كمعلم يعتمد على قدرته على أن يروج لتلاميذه ولرعاته رؤية عن التعليم الإنساني، الذي يدمج ما بين القيم الإنسانية المتحضرة والمهارات الاجتماعية العملية الضرورية للتقدم الاجتماعي. وفي إحدى المحاضرات الافتتاحية حول شيشرون، سأل جوارينو:
هل هناك هدف أفضل لأفكارنا وجهودنا من الفنون والمبادئ والدراسات التي نصل بها إلى القدرة على إرشاد أنفسنا وعائلاتنا ومراكزنا السياسية وتنظيمها والتحكم فيها [؟] ... ولهذا استمروا كما بدأتم أيها الشباب والسادة العظماء، واعملوا على هذه الدراسات التي بدأها شيشرون، والتي تملأ مدينتنا بالأمل الراسخ فيكم، والتي تجلب لكم الشرف والسعادة.
هذه الرؤية نشرتها مجموعة من المعلمين والباحثين المدربين على فن البلاغة والإقناع؛ ولا عجب في أنها حازت القبول بسهولة في زمانها، ولا تزال تؤثر في طلبة العلوم الإنسانية اليوم.
ومع ذلك، لم ينتج فصل جوارينو الدراسي بالضرورة مواطني الصفوة من الإنسانيين كما وعد. فقد كان تعليمه يتضمن استغراقا شديدا في قواعد اللغة والبلاغة، استنادا إلى تسجيل الملاحظات بإتقان واستظهار النصوص والتكرار الشفوي والمحاكاة البلاغية في دائرة لانهائية فيما يبدو من التدريبات الأساسية. ولم يكن هناك متسع من الوقت للمزيد من التأمل الفلسفي في طبيعة النصوص قيد التحليل، وتكشف ملاحظات التلاميذ في المحاضرات عن استيعاب أساسي وحسب للطرق الجديدة في التحدث والكتابة التي كان الإنسانيون مثل جوارينو يرون أنها أساس التعليم الإنساني. وهذه الدروس الأولية في اللغة والبلاغة أعدت التلاميذ لتولي الوظائف في المناصب القانونية والسياسية والدينية، رغم أن هذا كان بعيدا للغاية عن المستويات الراقية التي وعد بها جوارينو في محاضراته الافتتاحية.
كانت طرق جوارينو تسر رعاته السياسيين؛ فالتعليم القائم على التكرار في الأمور الدقيقة من القواعد كان يزرع السلبية والطاعة والانصياع في الطلاب. وعندما يفشل هذا، يتم تطبيق التأديب والتقويم بصورة روتينية. كما شجع جوارينو على التبعية لسياسات الصفوة الحاكمة، سواء أكانوا جمهوريين أم ملكيين (كما في حالة راعيه: عائلة إيستي):
Неизвестная страница
مهما كان قرار الحاكم ينبغي قبوله بعقل هادئ وسعادة؛ لأن من باستطاعتهم هذا يكونون محبوبين لدى الحكام، ويتمتعون بالرفاهية هم وأقرباؤهم، وينالون تقديرا بأرقى المنازل.
بالنسبة لمعظم طلاب الحركة الإنسانية، كانت التأكيدات البلاغية للحركة الإنسانية بخصوص مفهوم جديد عن الفرد تؤدي في الواقع إلى التوظيف في هيئات الطبقة البيروقراطية الناشئة. وكان جوارينو يضمن أن الإذعان السياسي يتوافق مع المهارات العملية المطلوبة لمثل هذه المناصب. وكان هذا يضمن الرعاية المستمرة من جانب الصفوة للمدارس والجامعات التي تنشر مثل الحركة الإنسانية.
مكان المرأة هو بيت مؤيد الحركة الإنسانية
ربما يتوقع من لغة الحركة الإنسانية أن من شأنها تقديم فرص فكرية واجتماعية جديدة للنساء. لكن علاقة الحركة الإنسانية بالنساء كانت أكثر تناقضا؛ ففي أطروحة ليون باتيستا ألبيرتي التي تحمل عنوان «عن العائلة» (1444)، عرف رؤية مؤيد الحركة الإنسانية عن البيت الذي يملكه الرجال وتديره النساء كما يلي:
شئون البيت الصغرى أتركها لرعاية زوجتي ... فبالكاد سننال الاحترام لو أننا تركنا زوجاتنا تشغلن أنفسهن وسط الرجال في السوق أمام أعين الناس. كما يبدو من المهين إلى حد ما بالنسبة لي البقاء ساكتا في البيت بين النساء، عندما تكون لدي شئون ذكورية أقوم بها وسط الرجال والإخوة المواطنين، والأجانب من ذوي الشأن الرفيع.
إن ذلك الرجل البليغ خارج البيت يقف على طرف النقيض مع زوجته الصامتة داخل البيت، والتي تبقى «محبوسة في البيت». فتدريبها الوحيد يكمن في إدارة البيت، ولضمان محافظة الزوجة الناجحة على البيت، فإن الزوج يكشف كل محتوياته لها مع استثناء واحد، «كتبي وسجلاتي» فقط تبقى محفوظة في مكان آمن، و«هذه ليس فقط لا تستطيع زوجتي قراءتها، وإنما لا تستطيع حتى أن تضع يدها عليها». وقد أبدى ألبيرتي القلق من فكرة وجود «نساء جريئات ومقدمات يحاولن بجد شديد معرفة الأشياء خارج البيت، ومعرفة اهتمامات أزواجهن، واهتمامات الرجال بصفة عامة».
وقد أثر موقف ألبيرتي على ردود فعل الإنسانيين على سيدات الصفوة اللائي تحدين دورهن المحدد، وسعين لأن يكون لهن رسالة في التعليم الإنساني. فلم يرفضوا تماما سعي النساء للتعلم، لكنهم كانوا مصممين على ألا يتجاوز الأمر هذا الحد. ففي خطاب كتب في عام 1405 تقريبا، حذر ليوناردو بروني - بحسب هانز بارون البطل العظيم للحركة الإنسانية المدنية - من أن دراسة النساء للهندسة والحساب والبلاغة أمر خطير؛ لأنه «لو أن المرأة حركت ذراعها أثناء الحديث، أو رفعت نبرة حديثها بقوة أكبر، فسوف تبدو مجنونة بصورة خطيرة، وسوف يتطلب الأمر كبح جماحها». فكان بإمكان النساء تعلم رعاية النباتات وقواعد الذوق واللياقة والمهارات المنزلية، لكن المهارة الرسمية في الموضوعات التطبيقية التي تؤدي إلى الظهور العام والمهني فلم يكن مرحبا بها.
رغم هذا العداء، حاولت بعض النساء المتعلمات الحصول بصعوبة على مهن أكاديمية. فقد أكدت الكاتبة الفرنسية كريستين دي بيزان في «كتاب مدينة السيدات» (1404-1405)، على أن «من يلومون النساء حسدا هم الرجال الأشرار الذين رأوا وأدركوا أن هناك نساء كثيرات يتمتعن بذكاء أكبر، وبسلوك أرقى منهم». وفي ثلاثينيات القرن الخامس عشر، ردت إيزوتا نوجارولا من فيرونا على الهجمات المتعلقة بثرثرة النساء باقتراح أن «النساء لسن يفقن الرجال في الثرثرة، ولكنهن في الواقع يتفوقن على الرجال في الفصاحة والفضيلة».
ومع ذلك، كانت ترد مثل هذه الهجمات في المنشورات وفي الأحاديث العامة باعتبارها أحداثا جديدة أكثر من كونها أنشطة مهنية. ففي عام 1438، افترى مؤلف كتيبات مجهول على إيزوتا لمحاولتها «التعبير عن رأيها»، وخلط بين معرفتها وبين العلاقات الجنسية المتعددة، قائلا باحتجاج باستخدام تورية جائرة: إن «المرأة طليقة اللسان لا تكون عفيفة على الإطلاق». وفور عبور المرأة الخط الفاصل بين مكانة التلميذة النجيبة إلى مكانة الخطيبة أمام جموع الجمهور، كان رد فعل أنصار الحركة الإنسانية إما معاقبتها لعدوانيتها الجنسية، أو إرباك وتسفيه الحوار الفكري للمرأة باعتباره مجرد تبادلات غزلية بين المحبين.
لم تخلق الحركة الإنسانية في عصر النهضة بالضرورة فرصا جديدة للنساء. لقد كانت تشجع تعليم المرأة كزينة اجتماعية، وكهدف في حد ذاته، وليس كوسيلة للخروج من البيت إلى ساحات الجماهير. وكان المعلمون والتلاميذ الإنسانيون من الذكور يجاهدون بشق الأنفس للحصول على مناصب مهنية ومكانة اجتماعية. فكان احتمال أن تحقق النساء هذا الحضور العام تهديدا واضحا، ومصدر إحراج محتمل، وأمرا لا يطاق بالنسبة للرجال. ومع ذلك، فإن فن خطابة الحركة الإنسانية في عصر النهضة قد أثنى على فضائل التعليم والفصاحة، وكلما كان الأمر ممكنا كانت النساء تحاول الاستفادة من الفرص التي تتيحها هذه التطورات. فإذا كانت النساء قد حظين بعصر نهضة، ففي الغالب كان هذا رغما عن إرادة نظرائهن من الذكور من الإنسانيين.
Неизвестная страница
آلة الطباعة: ثورة في التواصل
في منتصف ستينيات القرن الخامس عشر، كتب ألبيرتي أنه «يطري بكل حماسة على المخترع الألماني الذي جعل من الممكن مؤخرا لثلاثة رجال أن ينتجوا أكثر من مائتي نسخة من نص أصلي معين في مائة يوم، وذلك من خلال صنع بصمات محددة للحروف، حيث تنتج كل ضغطة صفحة واحدة في تنسيق كبير». لقد كان اختراع الحروف المطبوعة المتحركة في ألمانيا في عام 1450 تقريبا أهم ابتكار تكنولوجي وثقافي في عصر النهضة. وسرعان ما أدركت الحركة الإنسانية الإمكانات العملية للاستفادة من وسيلة للإنتاج بالجملة، كما يشير ألبيرتي، لكن التأثير الثوري للطباعة كان في أبرز صوره في شمال أوروبا.
نشأ اختراع الطباعة من تعاون تجاري وتكنولوجي في مدينة ماينز في خمسينيات القرن الخامس عشر بين يوهان جوتنبرج، ويوهان فوست، وبيتر شوفر: كان جوتنبرج صائغا، وقد استخدم خبرته لصب الحروف المعدنية المتحركة للطباعة؛ وكان شوفر ناسخا وخطاطا، وقد استخدم مهاراته في نسخ المخطوطات لتصميم وتركيب وإعداد النص المطبوع؛ أما فوست فكان مصدر التمويل. وكانت عملية الطباعة عملية تعاونية، وكانت بصفة أساسية عملا تجاريا يديره المنظمون بهدف الربح. ومن خلال الاعتماد على الاختراعات الشرقية الأقدم المتمثلة في الكليشيهات الخشبية والورق، طبع جوتنبرج وفريقه كتابا مقدسا باللغة اللاتينية في عام 1455، وفي عام 1457 أصدر طبعة من سفر المزامير.
كان شوفر يعتبر أن الطباعة ببساطة هي «فن الكتابة اصطناعيا دون استخدام القصب أو القلم». وفي البداية، لم تحظ الوسيلة الجديدة بأهميتها الخاصة. فالكثير من الكتب المبكرة المطبوعة كانت تستخدم الناسخين المدربين في زخرفة المخطوطات لمحاكاة المظهر الفريد للمخطوطات. وتوحي الزخرفة الوافرة لهذه الكتب نصف المرسومة ونصف المطبوعة بأنها كانت بمثابة سلع ثمينة في حد ذاتها، وتحظى بتقدير شديد لمظهرها بقدر تقديرها لمحتواها. وقد استثمر الرعاة الأثرياء، مثل إيزابيلا من عائلة إيستي ومحمد الفاتح، في هذا النوع من الكتب المطبوعة الذي بقي إلى جانب مخطوطاتهما التقليدية.
وبحلول عام 1480، تم تأسيس المطابع بنجاح في كل المدن الرئيسية في ألمانيا وفرنسا وهولندا وإنجلترا وإسبانيا والمجر وبولندا. وبحلول عام 1500، أشارت التقديرات إلى أن هذه المطابع قد طبعت ما بين 6-15 مليون كتاب في 40 ألف طبعة مختلفة، وهو عدد أكبر من الكتب التي أنتجت منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية. كما أن الأرقام التي شهدها القرن السادس عشر كانت أكثر إثارة للدهشة: ففي إنجلترا وحدها طبعت 10 آلاف طبعة، ونشر على الأقل 150 مليون كتاب لسكان أوروبا الذين كان عددهم أقل من 80 مليون نسمة.
كانت نتيجة هذا التوزيع الضخم من المطبوعات اندلاع ثورة في المعرفة والتواصل أثرت على المجتمع بكافة شرائحه. فالسرعة والكمية التي كانت الكتب توزع بهما تشير إلى أن الطباعة خلقت مجموعات جديدة من القراء المتلهفين لاستهلاك المواد المتنوعة التي تخرجها المطابع. كما أن سهولة الوصول إلى الكتب المطبوعة وتكلفتها المنخفضة نسبيا كانت تعني أن عددا أكبر من الناس من أي وقت مضى صار بإمكانهم الوصول إلى الكتب. ولقد كانت الطباعة عملا مربحا. ومع ازدياد أعداد من يتحدثون ويكتبون باللغات العامية الأوروبية - أي الألمانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والإنجليزية - أصبحت المطابع تنشر بصورة متزايدة مؤلفات بهذه اللغات بدلا من اللاتينية واليونانية، اللتين كانتا تروقان لجمهور أقل . وبالتدريج، أصبحت هذه اللغات العامية لغات قياسية؛ فأصبحت الوسيلة الأساسية للتواصل القانوني والسياسي والأدبي في معظم الدول الأوروبية. أما وفرة الكتب المطبوعة بلغة الحياة اليومية فأسهم في صوغ صورة مجتمع قومي بين أولئك الذين يتشاركون لغة عامية واحدة. وقد أدى هذا في نهاية المطاف بالأفراد إلى أن يعرفوا أنفسهم بأنهم ينتمون إلى أمة بدلا من دين أو حاكم، وهو ما كان له نتائج عميقة بالنسبة للسلطة الدينية، وذلك مع تآكل السلطة المطلقة للكنيسة الكاثوليكية، وصعود نموذج أكثر علمانية من البروتستانتية.
تغلغلت الطباعة في كل جوانب الحياة العامة والخاصة. فقد كانت المطابع في البداية تصدر الكتب الدينية - كالكتاب المقدس وكتب الصلوات والعظات وكتب التعليم المسيحي - لكنها بالتدريج تحولت إلى إنتاج كتب دنيوية أكثر، مثل: الروايات الرومانسية، وقصص الرحلات، والكتيبات، والنشرات، وكتب السلوك التي تقدم النصائح بخصوص كل شيء؛ من الدواء إلى واجبات الزوجة. وبحلول ثلاثينيات القرن السادس عشر، كانت الكتيبات المطبوعة تباع بسعر رغيف الخبز، بينما كانت نسخة من العهد الجديد تكلف أجرة عامل في اليوم الواحد. وتدريجيا تحولت الثقافة القائمة على التواصل من خلال الاستماع والنظر والتحدث إلى ثقافة تتفاعل من خلال القراءة والكتابة. وبدلا من التركيز على القصور أو الكنائس، بدأت ثقافة أدبية في الظهور حول آلة الطباعة شبه المستقلة. وصار جدول أعمالها يتحدد من خلال الطلب والأرباح بدلا من الالتزام بالقواعد الدينية أو الأيديولوجية السياسية. لقد حولت دور الطباعة الإبداع الفكري والثقافي إلى مغامرة تعاونية؛ حيث كان أصحاب المطابع والتجار والمعلمون والناسخون والمترجمون والفنانون والكتاب؛ يساهمون بمهاراتهم ومواردهم في خلق المنتج النهائي. وشبه أحد مؤرخي الطباعة مطبعة ألدوس مانوتيوس الفينيسية، التي تعود إلى أواخر القرن الخامس عشر، بمصنع للعمل الشاق ومأوى ومعهد أبحاث معا. فقد خلقت المطابع، مثل مطبعة مانوتيوس، مجتمعا عالميا من أصحاب المطابع والممولين والكتاب، مع ظهور فرص للتوسع في أسواق جديدة.
كما غيرت الطباعة كذلك طريقة فهم ونقل المعرفة نفسها. فالمخطوطة وسيلة فريدة وغير قابلة لإعادة الإنتاج، لكن الطباعة - بما تتمتع به من تنسيق ونوع قياسيين - قدمت إمكانية إعادة الإنتاج المطابق بأعداد هائلة. وكان هذا يعني أن اثنين من القراء تفصلهما مسافات هائلة، يمكنهما مناقشة ومقارنة كتب متطابقة وصولا إلى كلمة معينة في صفحة محددة. ومع إدخال تقنيات ترقيم الصفحات المتناسق والفهارس والترتيب الأبجدي والببليوجرافيا (التي كانت جميعها أمورا غير واردة في المخطوطات)، كانت المعرفة نفسها تقدم في شكل جديد ببطء. فأصبحت الثقافة النصية علما تراكميا، فيما صار بإمكان الدارسين جمع مخطوطات كتاب «السياسات» الذي كتبه أرسطو - مثلا - وإصدار طبعة معيارية موثوقة قائمة على مقارنة لكل النسخ المتاحة. وقد أدى هذا إلى نشأة ظاهرة الطبعات الجديدة والمنقحة. فقد أدرك الناشرون إمكانية دمج الاكتشافات والتصحيحات في الأعمال المجمعة لأحد المؤلفين؛ وعلاوة على أن هذا كان صارما من الناحية الفكرية، فإنه كان أيضا مربحا للغاية من الناحية التجارية، حيث كان من الممكن تشجيع الأفراد لشراء طبعة جديدة من كتاب يمتلكونه أساسا. أما الكتب المرجعية والموسوعات الرائدة المتعلقة بموضوعات مثل اللغة والقانون، فقامت بإعادة تصنيف المعرفة وفقا لمناهج جديدة من الترتيب الأبجدي والزمني.
لم تكن آلة الطباعة تنشر النصوص المكتوبة فحسب؛ فجزء من التأثير الثوري للطباعة كان ابتكار ما أسماه ويليام أيفنز «التعبير التصويري القابل للتكرار بدقة». فباستخدام الكليشيهات الخشبية، ثم تقنية النقش على الكليشيهات النحاسية الأكثر تطورا، أتاحت الطباعة إمكانية النشر الإجمالي للصور القياسية للخرائط والجداول العلمية والرسومات والمخططات المعمارية والرسومات الطبية والرسوم الكرتونية والصور الدينية. وفيما يتعلق بأحد طرفي السلم الاجتماعي، كانت الصور المطبوعة اللافتة للنظر لها تأثير ضخم على الأميين، لا سيما عند استخدامها للأغراض الدينية. أما بالنسبة للطرف الآخر، فإن الصور المعاد إنتاجها بدقة أحدثت ثورة في دراسة موضوعات مثل: الجغرافيا والفلك وعلم النبات والتشريح والرياضيات. كما أشعل اختراع الطباعة فتيل ثورة اتصالات من شأن تأثيرها أن يمتد لقرون، ويمكن تشبيهها فقط بتطور الإنترنت وثورة تكنولوجيا المعلومات.
آلة طباعة الحركة الإنسانية
Неизвестная страница
سرعان ما أدرك أنصار الحركة الإنسانية قوة آلة الطباعة لنشر رسالتهم الخاصة. فاستخدم الإنساني الأشهر في شمال أوروبا دسيدريوس إراسموس من روتردام (1466-1536) آلة الطباعة كوسيلة لتوزيع نسخته الخاصة من الحركة الإنسانية، وأثناء ذلك كان يلقب نفسه عن قصد بصفة «أمير الحركة الإنسانية». وردا من إراسموس على المزاعم القائلة بأن الإنسانيين المبكرين كانوا أكثر اهتماما بالكتاب الوثنيين الكلاسيكيين من اهتمامهم بالمسيحية؛ فقد شرع في ترجمة الكتاب المقدس وتقديم شروح له، وصلت إلى ذروتها في طبعته من العهد الجديد باللغة اليونانية بترجمة لاتينية افتتاحية (1516). وفي كتابه «منهج شيشرون» (1528)، عارض إراسموس الإنسانيين الإيطاليين الذين اعتبروا رؤيته الخاصة عن الحركة الإنسانية في أوروبا الشمالية «بربرية». وسخر من صفاء البلاغة اللاتينية للإنسانيين التابعين لمنهج شيشرون، مؤكدا على أن «الاهتمام الأول للإنسانيين التابعين لمنهج شيشرون كان ينبغي أن يكون فهم أسرار الدين المسيحي، وتقليب صفحات الكتب المقدسة بنفس الحماس الكبير الذي كرسه شيشرون لكتابات الفلاسفة».
سعى إراسموس جاهدا لدمج نسخته عن التعليم الأخلاقي الملهم من الكلاسيكيات مع «فلسفة المسيح»، وهي فلسفة تركز على المسيح وتؤكد على الإيمان الشخصي. وكان إنتاجه الوافر الهائل يشمل الترجمات والشروح على الأعمال الكلاسيكية (بما فيها سينيكا وبلوتارخ)، ومجموعات الأمثال اللاتينية، وأطروحات عن اللغة والتعليم، وخطابات وفيرة إلى الأصدقاء وأصحاب المطابع والباحثين والحكام في جميع أنحاء أوروبا. أما كتابه الأوسع انتشارا اليوم فهو كتابه الساخر «إطراء على الحماقة» (1511)، وهو «هجاء لاذع» وقاس بصفة خاصة في هجومه على فساد ورضا الكنيسة عن ذاتها، والتي يصفها الكتاب بأنها تؤمن بأن «تعليم الناس مهمة شاقة، والصلاة مملة، والدموع ضعيفة وأنثوية، والفقر مهين، والوداعة شائنة».
كانت معظم طاقة إراسموس الفكرية الهائلة تسير في اتجاه تأسيس مجتمع دراسي، ومنهج تعليمي ثابت تقف في مركزه كتاباته المطبوعة، ومكانته بصفته «المثقف» المطلق. وقد كانت آلة الطباعة عنصرا أساسيا في مسيرة إراسموس الفكرية، وصولا إلى توزيع صورته. ففي عام 1526، وافق دورر على تنفيذ نقش تصويري له. فاستخدم إراسموس ودورر هذه التقنية الجديدة في الطباعة لتوزيع صورة تذكارية قوية للباحث الإنساني وهو في غرفة مكتبه يكتب الخطابات وهو محاط بكتبه المطبوعة التي تمثل - كما يوحي نقش دورر اليوناني - سمعة إراسموس الخالدة: «إن أعماله ستقدم صورة أفضل عنه.»
وفي عام 1512، نشر إراسموس أحد أكثر أعماله المؤثرة، بعنوان «أسس الأسلوب الأنيق»، وهو كتاب دراسي لتدريبات في التعبير البلاغي باللغة اللاتينية. ومن أشهر ما يحتويه الكتاب هو أنه يتضمن 200 طريقة للتعبير عن العاطفة «طالما حييت، سأحتفظ بذكرياتي عنك». وقد كتب إراسموس الكتاب من أجل صديقه جون كوليت عميد مدرسة القديس بولس في لندن. وفي إهدائه إلى كوليت، زعم إراسموس أنه يريد «تقديم إسهام أدبي صغير إلى تجهيزات مدرستك»، وذلك باختيار «هذين الشرحين الجديدين من الكتاب، بقدر ما يكون العمل محل النقاش ملائما للصبية لقراءته». وأهديت الطبعات اللاحقة من الكتاب إلى باحثين ورعاة أوروبيين ذوي نفوذ، وذلك لضمان استخدام الكتاب ليس فقط في لندن، وإنما كذلك في الفصول الدراسية في جميع أرجاء أوروبا. لقد كان إراسموس بحاجة إلى الإضافة إلى الإنجازات الدراسية التي حققتها الحركة الإنسانية في القرن الخامس عشر من خلال استخدام وسيلة الطباعة للترويج لطريقة جديدة تماما من التعلم والعيش.
شكل 2-1: رسخت الصورة التي رسمها دورر لإراسموس في عام 1526 سمعة إراسموس بصفته المفكر الإنساني العظيم.
1
كان إراسموس يقدر كذلك أن الحركة الإنسانية بحاجة - علاوة على إصلاح التعليم والدين - إلى الفوز بحظوة السلطة السياسية. لذا في عام 1516 ألف كتابه «تعليم الأمير المسيحي» وأهداه إلى أمير هابسبورج - الإمبراطور تشارلز الخامس المرتقب. وكان الكتاب بمثابة دليل إرشادي للأمير الصغير حول كيفية ممارسة «الحكم المطلق على الرعايا الأحرار بكامل إرادتهم»، والحاجة للتعليم والإرشاد من جانب البارعين في الفلسفة والبلاغة؛ أي إن إراسموس كان يسعى للحصول على منصب عام بصفته المستشار الشخصي للأمير الصغير، ومرشدا في العلاقات العامة. ورغم أن تشارلز قبل الكتاب بلباقة، لم يكن هناك أي منصب وشيك.
فما كان من إراسموس إلا أن أرسل نسخة أخرى من كتاب «تعليم الأمير المسيحي» إلى منافس تشارلز السياسي وهو الملك هنري الثامن. وفي إهدائه الذي كتبه في عام 1517، أثنى إراسموس على هنري كملك تمكن من «تخصيص جزء من وقتك لقراءة الكتب»، الأمر الذي أكد إراسموس على أنه جعل هنري «إنسانا أفضل وملكا أفضل». وقد حاول إراسموس إقناع هنري بأن السعي وراء تحقيق الحركة الإنسانية هو أفضل طريقة لإدارة مملكته، مشيرا إلى أن هذا سيجعله إنسانا أفضل، وسيتيح المهارات المطلوبة لتحقيق غاياته السياسية. ومن المهم أن إراسموس كان يشعر أنه من الملائم إهداء النص نفسه لكل من تشارلز الخامس وهنري الثامن؛ إذ إنه كان يفترض أن كلا الحاكمين سيفهمان أنه قادر على استخدام مهاراته البلاغية لصياغة أي حجج سياسية يحتاجان إليها.
سياسات الحركة الإنسانية
شهد جيل إراسموس إنتاج اثنين من أكثر الكتب المؤثرة في تاريخ النظرية السياسية والحركة الإنسانية: كتاب «الأمير» (1513) من تأليف نيكولو مكيافيلي، وكتاب «يوتوبيا» (1516) من تأليف توماس مور. واليوم يقرأ الكتابان بصفتهما من الكلاسيكيات الخالدة عن كيفية الحفاظ على السلطة السياسية وخلق المجتمعات المثالية. كما أنهما منتجان محددان تمخضت عنهما خبرة الكاتبين عن العلاقة بين الحركة الإنسانية والسياسة في النصف الأول من القرن السادس عشر.
Неизвестная страница
وضع مكيافيلي كتابه في أعقاب انهيار جمهورية فلورنسا في 1512، وعودة عائلة ميديتشي للسلطة. كان مكيافيلي قد خدم الجمهورية لمدة 14 عاما قبل طرده، وسجنه لفترة وجيزة على يد عائلة ميديتشي العائدة إلى الحكم. وكان الهدف من كتاب «الأمير» هو الاعتماد على خبراته السياسية «في مناقشة حكم الأمير ولصياغة القوانين المتعلقة به». وما حدث لاحقا كان وصفا مدمرا لكيفية حصول الحكام على السلطة واحتفاظهم بها. واختتم مكيافيلي كتابه بأنه لو أن اقتراحاته «وضعت في حيز التنفيذ بمهارة، فسوف ترسخ أواصر حكم الحاكم الجديد، وسوف تجعل سلطته آمنة أكثر سريعا». وقد أنتجت خلفية مكيافيلي المشتملة على التدريب الإنساني والخبرة السياسية المباشرة سلسلة من الآراء الشائنة التي كانت مستلهمة من المؤلفين الكلاسيكيين، وكذلك الأحداث السياسية المعاصرة. فيقول: «يجب أن يكون الحاكم الذي يرغب في الحفاظ على حكمه مستعدا للتصرف بصورة لا أخلاقية»، كما يجب عليه أن «يكون منافقا ومدعيا كبيرا»، ومستعدا «للتصرف بغدر وبقسوة وبلا إنسانية، ويتجاهل مبادئ الدين» بهدف الحفاظ على السلطة السياسية.
كان كتاب مكيافيلي محاولة للحصول على وظيفة سياسية (أو في حالة مكيافيلي العودة مرة أخرى إلى وظيفة سياسية). وقد أهدي كتاب «الأمير» إلى جوليانو دي ميديتشي الحاكم المطلق الجديد لفلورنسا، كما أشار المؤلف إلى كتابه بصفته «علامة على استعدادي لخدمتك». كما صرح مكيافيلي في خطاباته عن «رغبتي في أن يبدأ حكام عائلة ميديتشي هؤلاء في استخدامي». وكان كتاب «الأمير» بمثابة محاولة مكيافيلي لتقديم النصح لعائلة ميديتشي حول كيفية التمسك بالسلطة السياسية المطلقة. لقد كان مكيافيلي يصل بالحركة الإنسانية في عصر النهضة إلى نهايتها السياسية المنطقية بتزويد حاكمه الجديد بالوصف المتاح الأكثر إقناعا وواقعية عن كيفية الحفاظ على السلطة. لقد كانت إنسانية مكيافيلي مهيئة للترويج لأي أيديولوجية سياسية تملك زمام التحكم؛ سواء أكانت استبدادية أم ديموقراطية. أما مأساة مكيافيلي فكانت تتمثل في عدم اقتناع عائلة ميديتشي بتأكيداته على الولاء. ولم يحصل قط على أي منصب سياسي رفيع المستوى مرة أخرى، وظل كتاب «الأمير» بلا طباعة حتى مات في عام 1527.
أما كتاب توماس مور المعنون «يوتوبيا: عن أفضل دولة في الكومنولث وجزيرة يوتوبيا الجديدة»، فكان وثيق الصلة كذلك بالحياة المهنية لمؤلفه. فقد ترجم مور - وهو من أقرب أصدقاء إراسموس وطالب موهوب في القانون واللغة اليونانية - أعمال لوقيان وكتب الشعر باللغتين الإنجليزية واللاتينية. وفي عام 1517، انضم إلى مجلس هنري الثامن السياسي، وأصبح رئيس مجلس اللوردات في 1529، وكان يكتب الكثير من كتيبات الدعاية السياسية واللاهوتية الخاصة بهنري الثامن أثناء تلك الفترة. وكان مور تجسيدا لرؤية شيشرون عن الإنساني المثقف؛ وهو الشخص القادر على توفيق التأمل الفلسفي الخاص مع الخطابة العامة، والاشتراك في العالم المدني للسياسة والدبلوماسية.
يتخلل فعل الموازنة الدقيقة هذا كتاب يوتوبيا. فقد كتب هذا الكتاب في صيغة حوار لاتيني بين أشخاص مثقفين، وذلك في محاكاة مباشرة لأطروحة أفلاطون الأنيقة عن الدولة المثالية: «الجمهورية». ويستهل الكتاب بتقديم مور نفسه في مدينة أنتويرب بصفته الممثل الدبلوماسي لهنري الثامن، ثم يقدمه صديقه إلى رافاييل هيثلوداي، وهو مغامر عاد مؤخرا من جزيرة يوتوبيا. ويقدم هيثلوداي وصفا تفصيليا عن «كومنولث» يوتوبيا المثالي، حيث «كل الأشياء خاضعة للملكية المشتركة»، و«لا يوجد متسولون»، والطلاق والقتل الرحيم والصحة العامة أمور مسلم بها.
هل كان مور يؤمن برؤيته الخيالية عن المجتمع المثالي؟ هناك أسباب متعددة للاعتقاد بأنه كان متناقضا فيما يتعلق باليوتوبيا. فكلمة «يوتوبيا» في حد ذاتها تورية واختراع لغوي من اللغة اليونانية معناه «المكان المحظوظ» وأيضا «اللامكان». كما أن اسم هيثلوداي معناه «الخبير في الهراء». وكان مور يرى أن الكثير من «قوانين وعادات» يوتوبيا «سخيفة حقا»، لكنه اعترف «أنه في كومنولث يوتوبيا هناك الكثير من السمات الموجودة في مجتمعاتنا التي أحبها أكثر مما أتوقع أن أراها». وهذه موافقات مشروطة بشدة لمجتمعه الخيالي.
وعلى مدار صفحات الكتاب، يرفض مور الموافقة على الموضوعات السياسية المثيرة للنزاع التي يناقشها أو رفضها، بدءا من الملكية الخاصة والسلطة الدينية، وحتى المناصب العامة والتأمل الفلسفي. ولم يكن هذا بسبب أنه لم يستطع التوصل إلى قرار: فمن الناحية السياسية، لم يشأ أن يعتقد أحد أنه يساند موقفا محددا. وبصفته مستشارا سياسيا ماهرا، اضطر مور لاستعراض مهاراته البلاغية في تبرير التصريحات والمعتقدات المتنافرة أو المتناقضة بالتبادل في خدمة الدولة. وتمثل يوتوبيا لوحة يمكنه أن يناقش فيها مجموعة من الموضوعات وثيقة الصلة بعالمه الخاص. ولو تعرض تحليله للدراسة والتقييم، كان بإمكانه دائما الإشارة إلى أنه دافع عن الموقف المعاكس، أو القول بأن يوتوبيا في نهاية الأمر وببساطة فكرة مختلقة: فهي غير موجودة.
ويمثل كتاب «يوتوبيا» إعلانا عن قدرة مور على الحديث بفصاحة في سلسلة من الموضوعات المثيرة للنزاع التي أثرت على صاحب العمل الذي كان مور يعمل لديه، وهي أمور كان من المتوقع أن يقدم مور الاستشارة حولها. وعلى خلاف مكيافيلي، كتب مور «يوتوبيا» في أوج حياته العامة، وكان عليه أن يكون أكثر حذرا وأكثر مرونة من الناحية السياسية في تفكيره؛ ولهذا فإن رسالة وأسلوب «يوتوبيا» متناقضان بهذه الصورة؛ ولذلك فقد استطاع مكيافيلي، الذي كان دون عمل آنذاك، أن يقدم وصفا للسياسة والسلطة أقل غموضا بكثير وأكثر واقعية على المستوى السياسي في كتابه «الأمير». أما رفض مور المصادقة على طلاق هنري فكان سوء تقدير سياسي على أساس الدين أكثر من كونه موقفا أخلاقيا مرتبطا بالمبادئ، وهو ما أدى إلى إعدام مور. ويوضح كل من كتاب مور «يوتوبيا» وكتاب مكيافيلي «الأمير» الانتهازية السياسية للإنسانيين في عصر النهضة.
ومن بيترارك إلى مور، كانت الحركة الإنسانية في عصر النهضة تخدم بمرونة من كان يبدو من المناسب والمفيد اتباعه سياسيا. ولهذا فإن العديد من الفلسفات السياسية الحديثة ادعت أن كتبا مثل «الأمير» و«يوتوبيا» تبرر مطالبها الشخصية للقوة والسلطة. ولا تزال الحركة الإنسانية في عصر النهضة لها تأثير فعال على الحركات الإنسانية الحديثة، لكن الحركة الإنسانية - كما أكد هذا الفصل - ليست احتفاء مثاليا بالمشاعر الإنسانية كما كانت تزعم في الغالب، ولكنها في جوهرها براجماتية إلى حد بعيد. إن ميراث الحركة الإنسانية في عصر النهضة أكثر تناقضا مما يعتقد الكثيرون، ويرجع ذلك - جزئيا - إلى أن لغتها لا تزال شديدة الإغراء.
هوامش
الفصل الثالث
Неизвестная страница
الكنيسة والدولة
وصل الباحث الإنساني لورنزو فالا إلى نابولي عام 1435 لعرض خدماته على ملكها المرتقب ألفونسو من أراجون. كان ألفونسو في ذلك الوقت في خضم صراع سياسي مع البابا يوجينيوس الرابع بخصوص الاستيلاء على نابولي. بدأ فالا العمل على نص له صلة سياسية مباشرة بولي نعمته الجديد، وكان ذلك النص هو «منحة قسطنطين»، والذي كان من بين الوثائق المؤسسة للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وكانت بمثابة منحة صادرة في القرن الرابع على يد الإمبراطور قسطنطين لمنح سلطات إمبراطورية وإقليمية شاملة للباباوية. ولقد كانت تلك الوثيقة من أقوى مبررات المزاعم الباباوية في الحصول على سلطة دنيوية وأكثرها إقناعا. وقد كشف لورنزو فالا أن تلك المنحة مزيفة. وباستخدام مهاراته في البلاغة والفلسفة وفقه اللغة التي اكتسبها من انتمائه للحركة الإنسانية، أثبت أن المفارقات التاريخية للوثيقة، وأخطاءها اللغوية، والتناقضات في منطقها؛ تكشف أن الوثيقة ما هي إلا تزييف يرجع إلى القرن الثامن.
كانت أناقة تحليل فالا النصي متناغمة مع هجومه القاسي على الكنيسة الرومانية وبابواتها، الذين إما أنهم «لم يكونوا يعرفون أن «منحة قسطنطين» مزورة وغير شرعية، أو أنهم زوروها»، واتهمهم «بإهانة الدين المسيحي، وخلط كل شيء بالقتل والكوارث والجرائم». سخر فالا من اللغة اللاتينية غير الدقيقة المستخدمة في الوثيقة والتي تنطوي على مفارقات تاريخية، وذلك قبل أن يطرح من جديد السؤال البلاغي: «هل يمكننا أن نبرر مبدأ السلطة الباباوية عندما نرى أنه سبب لمثل تلك الجرائم الكبرى، وتلك الشرور الجسيمة والمختلفة؟» واختتم هذا القدح الممتاز من الناحية البلاغية بهجوم على الذرائع الإمبراطورية للبابا الذي «من أجل أن يستعيد الأجزاء الأخرى من «المنحة»، كان ينفق المال المسروق بطريقة كريهة من الناس الأخيار بصورة أكثر شرا». كان ألفونسو مبتهجا بتدمير فالا لوثيقة «المنحة»، واستخدم برهانها في محاولته التي كللت بالنجاح في النهاية لتأمين مملكة نابولي رغم المعارضة الباباوية المدبرة.
تمثل قصة كشف فالا تطورا جديدا في العلاقات بين الدين والسياسة والتعليم في عصر النهضة. فظهور المؤسسات السياسية مثل الدولة المستقلة ولد الحاجة إلى مهارات فكرية وإدارية جديدة لتنظيم الهياكل السياسية ولتحدي سلطة بعض المؤسسات مثل الكنيسة بنجاح. وربما تبدو حقيقة أن البابا مارتن الخامس قد عين فالا سكرتيرا باباويا غريبة بعد أن فضح أمر وثيقة «المنحة». ومع ذلك، فإنها تكشف عن موقف الكنيسة من مثل أولئك الباحثين؛ (أي اتباع أسلوب أن الشيطان الذي تعرفه خير من الشيطان الذي لا تعرفه). كما توضح كيف أن الإنسانيين الاستراتيجيين على المستوى السياسي مثل فالا كانوا مستعدين لاغتنام الفرص الجديدة.
تساعدنا هذه القصة على فهم العلاقة المتداخلة المعقدة بين الدين والسياسة في عصر النهضة. فبين عامي 1400 و1600، كانت المعتقدات الدينية جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية. كما كان من المستحيل فصل الدين عن ممارسة السلطة السياسية، وعالم التمويل الدولي، وإنجازات الفن والتعليم. وبينما كانت الكنيسة الكاثوليكية تجاهد للتأكيد على سلطتها الدنيوية والروحانية طوال هذه الفترة، فإنها كانت تواجه صراعا وانشقاقا وانقساما مستمرا. وقد وصل هذا الصراع إلى ذروته في عهد الإصلاح الذي اكتسح شمال أوروبا في القرن السادس عشر، وتسبب في أكبر أزمة في تاريخ الكنيسة الرومانية. أما الإصلاح الكاثوليكي المضاد في منتصف القرن السادس عشر فقد حول الكنيسة إلى الأبد ، وهذا التحول، إضافة إلى الإصلاح البروتستانتي بقيادة مارتن لوثر، أرسيا معا الشكل العام للمسيحية كما هي موجودة اليوم. كما أثار الإصلاح أسئلة معقدة فيما يتعلق بعلاقة المسيحية بالديانتين الكتابيتين الأخريين: اليهودية والإسلام، واللتين أكدتا تفوقهما اللاهوتي على المسيحية، كما أن الإسلام كان سريعا في استغلال الانقسامات داخل الكنيسة المسيحية في القرن السادس عشر. لقد كان الدين في عصر النهضة في أزمة مستمرة. فالشك والقلق والتأمل الداخلي كان لا يزال حجر الأساس للتفكير الحديث والنزعة الذاتية الحديثة، ويمكن تتبع أصولهما بالعودة إلى مرحلة التوتر الديني في الفترة من 1400 إلى 1600.
كان التطور الآخر الذي حول شكل السلطة الدينية خلال هذه الفترة هو ظهور أنماط جديدة من السلطة السياسية. فمنذ أواخر القرن الخامس عشر، أصبحت المؤسسات السياسية تتحكم بصفة متزايدة في الحياة اليومية للكثير من الناس. أما الثراء والابتكار الإداري الذي صاحب التوسع التجاري والحضري المتفاوت في القرن الخامس عشر، فقد خلق الظروف الملائمة للتغير والتوسع السياسي البارز. فقد جربت المدن الإيطالية مثل فلورنسا وفينيسيا الحكومات الجمهورية، بينما كانت قصور البلاط الملكي في ميلانو ونابولي وأوربينو وفيرارا تحكم كإمارات صغيرة. وفي الشمال، أدى السلام والرخاء الذي حل عقب حرب المائة عام إلى تركز الثروة والسلطة في فرنسا والبلدان المنخفضة؛ مما أدى إلى بزوغ إمبراطورية هابسبورج العظيمة. وفي الشرق، كانت الإمبراطورية العثمانية نموذجا للسلطة الإمبراطورية العالمية التي كان ينبغي أن تنافسها كل الإمبراطوريات الأخرى. وبمنتصف القرن السادس عشر، كانت أوروبا في قبضة سلسلة من الدول والإمبراطوريات المهيمنة: ألا وهي فرنسا والبرتغال وإسبانيا والدولة العثمانية. وكان صعود هذه الإمبراطوريات في تناسب عكسي مع السلطة الدنيوية للكنيسة.
في بداية القرن الخامس عشر، كانت الكنيسة الكاثوليكية في أزمة. فمع أن كلمة «كاثوليكي» مشتقة من كلمة يونانية تعني «عالمي»، فقد كانت الكنيسة بحلول عام 1400 تنطبق عليها أي صفة غير أنها «عالمية». فالكنيسة كانت قد عانت بالفعل من الانقسام بانفصالها إلى الكنيسة الرومانية الغربية والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية ومقرها القسطنطينية في عام 1054. وعلى مدار القرون الثلاثة اللاحقة، قاتلت الكنيسة الغربية للتأكيد على سلطتها اللاهوتية والإمبراطورية في وجه المعارضة من الداخل والخارج. وكان البابا يزعم - بموجب سلطة الكتاب المقدس - أنه، بصفته ممثل المسيح على الأرض، يملك النفوذ السياسي على القضايا الدنيوية.
وعلى مدار القرن الرابع عشر، انقسمت الباباوية بين المطالبين بها المتنافسين في كل من روما وأفينيون في فرنسا. أما الشقاق البابوي فأتاح للكرادلة المنشقين من كلا الجانبين اقتراح النظرية المجلسية لحكم الكنيسة؛ وهذا جعل المجالس الكنسية تفرض سلطتها الجمعية على البابوات الذين يتسببون في انشقاقات. وفي عام 1414، عقد بابوات الكنيسة مجمع كونستانس لإنهاء الانشقاق، وحكم المجمع بأن «كل البشر من كل رتبة ومنزلة، بما فيهم البابا نفسه، عليهم طاعة هذا الأمر في المسائل المتعلقة بالإيمان والقضاء على الشقاق وإصلاح كنيسة الرب». وقد أتاح هذا للمجمع تعيين مارتن الخامس ليكون أول بابا في روما غير متنازع عليه منذ قرن تقريبا.
زواج أرثوذكسي
رفع مجمع كونستانس مستوى السلطة الاستبدادية للباباوية دون قصد منه. فالبابا مارتن الخامس وخليفته البابا يوجينيوس الرابع دعما سلطتهما بالشروع في تنفيذ خطط طموحة لإعادة بناء روما والاتحاد مع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. وفي عام 1437، عقد يوجينيوس مجمع فلورنسا لمناقشة توحيد الكنائس الأرثوذكسية الشرقية والرومانية الغربية، وإبعاد محاولات المجمع لتحجيم السلطة الباباوية. وفي فبراير 1438، وصل الإمبراطور البيزنطي يوحنا الثامن باليولوجوس إلى فلورنسا مع حاشية مكونة من 700 يوناني ورئيس الكنيسة الأرثوذكسية وهو البطريرك يوسف الثاني. وبالإضافة إلى الوفد اليوناني، وصلت وفود من تريبيزوند وروسيا وأرمينيا والقاهرة وإثيوبيا. وكما هو الحال في الكثير من تعاملات عصر النهضة التي يبدو ظاهريا أنها معنية بالدين، فقد كان لهذا اللقاء الرسمي الخطير بين الشرق والغرب تضمينات سياسية وثقافية عميقة. فقد اقترح البابا يوحنا الثامن اتحادا بين فرعي العالم المسيحي الشرقي والغربي بصفته الطريقة الواقعية الوحيدة لمنع انهيار الإمبراطورية البيزنطية والاستيلاء على القسطنطينية في وجه صعود الإمبراطورية العثمانية. وقد كان البابا متحمسا لتوحيد الكنيستين كطريقة لمد سلطته السياسية الشخصية عبر أرجاء إيطاليا.
Неизвестная страница