على أنه قد يعترض علينا بأن الحادثة التي قدمناها حادثة فردية لا يصح أن تتخذ قاعدة عامة، أو أن يستنبط منها وقوع مثيلاتها وذيوع نظيراتها.
بيد أن الأغاني يجهز على هذا الاعتراض؛ إذ يثبت ما نصه: «كان السلطان بالمدينة إذا جاء مال الصدقة أدان من أراد من قريش منه، وكتب صكا عليه يستعبدهم به ويختلفون إليه ويدارونه، فإذا غضب على أحد منهم استخرج ذلك منه، حتى كان هارون الرشيد، فكلمه عبد الله بن مصعب في صكوك بقيت من ذلك على غير واحد من قريش، فأمر بها فأحرقت.»
فمثل هذا التصرف في استرضاء الناس واستعبادهم، وفي إقراضهم المال ليكونوا أولياء، وتعجيزهم وإرهاقهم إن جنحوا لمناوأة ولاة الأمور أو منافستهم، له آثاره من خير وشر في المصلحة الحزبية لبيت بني أمية، طبقا لما يبديه الزعماء من حنكة وحزم وإصابة لمواقع الصواب.
وبعد، فإن هذا السلاح الماضي في يد الأقوياء لهو أشد مضاء في القضاء على الضعفاء إذا أساءوا استعماله؛ لأنه قد يبذل لشراء مثل «الذلفاء» وغيرها من القيان، ولأنه قد يبذله الشباب من الخلفاء في ضروب الخلاعة والاستهتار، فيكون معول هدم ودمار، كما حصل لمحمد الأمين وأمثال محمد الأمين مما سنورده عليك.
وإنا لنرى في أخريات هذا البيت ذي الأثر الكبير في تحول المدنية العربية أن بعض الخلفاء نقص الناس العطاء؛ فعانوا ضيقا بعد سعة، وشظفا بعد رفاهية. وشر السياسات أن تصيب صاحب عيش رغيد بإضاقة وحرمان، وأن تنزل به غضاضة التقتير والعسر.
ولننظر ما يقوله اليعقوبي عن خليفة من هذا الطراز: طراز الإضاقة في أرزاق الناس، وعنوان اضمحلال الدولة إذا آذن نجمها بالأفول؛ وآل أمرها إلى الإفلاس.
يقول اليعقوبي عن يزيد بن الوليد بن عبد الملك: إنه سمي يزيد الناقص لأنه نقص الناس من أعطياتهم، واضطربت عليه البلدان، وكان ممن خرج عليه العباس بن الوليد بحمص، وشايعه أهل حمص، وبشر بن الوليد بقنسرين، وعمر بن الوليد بالأردن، ويزيد بن سليمان بفلسطين، وساعد العباس أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية وسليمان بن هشام.
يريد اليعقوبي أن يقول من غير شك: إن هؤلاء الأمراء انتهزوا غضب الجند لنقصان الأعطية فثاروا.
ليس هذا فحسب، بل إن سياسة بعض الخلفاء دفعتهم إلى حرمان مدن بحذافيرها من عطائها، كما حصل لأهل مكة والمدينة إذ حرموا سنة كاملة، في حين نرى معاوية قد زاد عطاء أهل البيت مثل الحسن والحسين وعبد الله بن عباس إلى 1000000 درهم في السنة؛ فضاعفها مائتي مرة عن حساب ديوان عمر بن الخطاب.
أفلا يجدر بنا بعد ما أسلفناه أن نقتنع بأن المال كان سببا قويا لبناء بيت معاوية، وأن المال نفسه كان - إلى حد غير قليل - سببا له خطره وقيمته في انهيار هذا البناء! (3) العمال
Неизвестная страница