جعله هذا الاقتراح يستشعر الخطورة ويفكر في الموت. تخيل عين جالسة مكان فرج يا مسهل. كلا إنها لن تفارق الفراش. سينهال عليه سيل فياض بالدعوات المباركات والآيات الشريفة. ستقول له: آن لك أن تغير حياتك، ستقول له أيضا إني أعرف سر هذا الشقاء كله. ورغم حنينه الطارئ المستفحل بالرقاد والتفكير في الموت فإنه لم يستسلم.
قال: لا تخبر أحدا، لا عين ولا أحدا في الملهى. - ترى ذلك؟ - نعم ... نفذ بكل دقة ... لا عين ولا أي راقصة ولا أي قواد!
وأخذ يتلقى التحذيرات عن البدانة والطعام والشراب، تهاوت الحصون التي يحتمي بها من الحياة وأطوارها الغريبة، يجردونه من أسلحته، ويتحالف المرض مع العقوبات المفروضة. ومن عجب أن رأى في نومه قطط الست عين في الحديقة، ورأى بينها بركة بهدوئها الشامخ، وتهلل لذلك سرورا، وظن أنه سيفاجئ عين بالخبر السعيد، وهو أن بركة حية، لم تمت كما توهمت، وأنه ما كان يجدر بها أن تبكي. واستيقظ ليلتها عند الفجر بقلب ثقيل بخلاف المتوقع، كمن يرجع من رحلة طويلة عقيمة، فخطر له أن الدنيا قطة وأنها تأكل صغارها، وقال بصوت مسموع في سكون الليل: إذا كان شارع دوبريه والإليزيه سجنا، فالحارة ليست إلا زنزانة! •••
وغادر المستشفى نحيلا هزيلا، ولكن سليما. تهدلت ملابسه الداخلية والخارجية، وتبدى العالم متغير اللون، باردا، لا يحيي ولا يرد تحية. ورجع للتفكير في سمير، ولكن من خلال استسلام شامل. وحرص على الحياة رغم كل شيء، فاحترم الرجيم والدواء ومواعيد التردد على العيادة، وهجر الكأس، ولكنه لم يهجر الجوزة.
وأعاد تفصيل ملابسه. رجع رشيقا كما بدأ. انتشر المشيب في رأسه وحاجبيه وشاربه. بدا كهلا وقورا، يتنافر وقاره مع بيئته وعمله. وكلما تذكر أنه جاوز الخمسين يدهش، لا يصدق، يستحضر مناظر خالدة في خميلة الياسمين أو كتاب الشيخ العزيزي أو تمثيل مسرحية روميو وجولييت في الحارة. كان يظن أن ذلك يحدث للغير فقط؛ فالظاهر أن التاريخ صادق فيما يؤكد من مرور أقوام في القديم وذهابهم. وحتى متى نسلم بذلك ونذعن له؟ ولكن شكرا للعادة؛ فقد قتلت كل حزن وكل فرح. ولعله من الخير أن نترك الدنيا بعد أن نضيق بها مللا. •••
وماذا عن الحارة؟
إن المخبر مستمر في رواية الحكايات. ما زالت سيدة منطوية في الدار، منطوية على أحزانها. ما زالت عين مصرة على نشاطها، لكن هيهات؛ لم تعد تخرج إلا مرة واحدة في الأسبوع كتمثال للشيخوخة الخالدة، وتسير إذا سارت بصحبة خادمة. ترى ماذا بقي من الذاكرة والإرادة والذكاء؟ وأي الحزنين أشد عليها؛ حزنها على عزت أم حزنها على سمير؟ وما رأي إيمانها الراسخ في هذه الأحوال الغريبة؟ هل لقي الموت مقاومة أشد مما لقي على يدي عين؟!
25
يقول الراوي:
إن عزت عبد الباقي لم يتوقع جديدا إلا أن يكون إنزال الستار وإطفاء الأنوار، ولكن فرج يا مسهل زاره في شقته ذات صباح من أيام الخريف، وقال له: عرفت خبرا غريبا، لعله يهمك أنت أكثر من جميع الناس.
Неизвестная страница