القسم 191 : ويتفق هذا الرأي مع النتيجة التي وصلنا إليها في الجزء الأول، الذي تناولنا فيه العلاقة بين القابل للمعرفة وغير القابل للمعرفة.
فقد بينا في ذلك الجزء، من خلال تحليل الأفكار الدينية والعلمية معا، أنه مع استحالة معرفة العلة التي تحدث تأثيرات في الوعي، فإن وجود «علة » لهذه التأثيرات هو من معطيات الوعي. والإيمان ب «قوة» تعلو على المعرفة هو ذلك العنصر الأساسي في الدين، الذي يبقى من وراء كل تغيرات صوره. وقد ثبت أن هذا الإيمان القاهر هو بالمثل ما يبنى عليه كل علم دقيق. وهذه بدورها هي النتيجة التي تؤدي بنا إليها تلك النظرة التركيبية الشاملة التي نقدمها الآن؛ فالاعتراف بقوة دائمة، تتغير مظاهرها أبدا ولكن لا تتغير كميتها في كل وقت مضى وكل وقت مقبل، هو في اعتقادنا الأساس الوحيد لإمكان كل تفسير عيني، وهو في نهاية الأمر ما يوحد كل التفسيرات العينية.
ومن الواضح أن كل بحث علمي أو ميتافيزيقي أو لاهوتي كان، ولا يزال، يسير نحو الوصول إلى نتيجة كهذه. ويظهر هذا التقدم بوضوح في تبلور النظرات التعددية إلى الآلهة في نظرة موحدة، وتحول النظرة الموحدة بالتدريج إلى صورة تزداد شمولا، يندمج فيها العلو التشخيصي في الكمون الكوني، كذلك يظهر في تواري النظريات القديمة عن «الماهيات» و«الإمكانيات» و«الفضائل الخفية» ... إلخ، وفي التخلي عن مذاهب ك «المثل الأفلاطونية» و«الانسجام المقدر»، وما شابهها، وفي الاتجاه إلى التوحيد بين «الوجود» كما يتمثل في الوعي، وبين «الوجود» كما يتحدد على نحو آخر خارج الوعي، بل إنه لأوضح من ذلك في تقدم العلم، الذي كان منذ البداية يعمل على جمع وقائع متفرقة في قوانين، والتوحيد بين قوانين خاصة في قوانين أعم، وبذلك يصل إلى قوانين تزداد عمومية بالتدريج، إلى أن أصبح تصور القوانين الكلية الشاملة مألوفا لدينا.
ولما كان التوحيد هو الصفة المميزة لتطور جميع أنواع الفكر، ولما كان من حقنا أن نستنتج أنه سيتم التوصل إلى الوحدة بمضي الوقت، فإنا نجد في ذلك تأييدا آخر للنتيجة التي توصلنا إليها؛ إذ إن الوحدة التي وصلنا إليها ينبغي أن تكون هي الوحيدة التي يتجه إليها التفكير المتطور، ما لم تكن هناك وحدة أخرى أعلى منها. •••
القسم 193 : فإذا قبلت هذه الاستنتاجات - أي إذا ووفق على أن الظواهر التي تحدث في كل مكان هي أجزاء لعملية التطور العامة، إلا حيثما تكون هناك أجزاء لعملية التحلل العكسية - فعندئذ يكون لنا أن نستنتج أن جميع الظواهر لا تفسر تفسيرا كاملا إلا إذا أدركناها بوصفها أجزاء من هذه العمليات ومن هذا يتلو أن الحد النهائي الذي تتقدم إليه المعرفة لا يبلغ إلا عندما تطبق صيغ هذه العمليات على نحو يؤدي إلى تفسيرات الظواهر في عمومها. غير أن هذا مثل أعلى لا بد أن يظل الواقع على الدوام عاجزا عن بلوغه.
ذلك لأنه، مع اعترافنا بأن جميع تغيرات الظواهر قد تكون نتائج مباشرة أو غير مباشرة لبقاء القوة، فلا يمكن الإتيان بدليل على ذلك إلا جزئيا. وما التقدم العلمي إلا تقدم في هذا التكيف للفكر مع الأشياء، الذي رأيناه واقعا، ولا بد أن يستمر في الوقوع، وإن لم يكن يصل في أي وقت إلى ما يقرب من الكمال. ومع ذلك، فرغم أن العلم لا يصل أبدا إلى هذه الصورة، ورغم أنه لن يستطيع الاقتراب منها، ولو من بعيد، إلا بعد زمن طويل جدا، فإن من الممكن، حتى في وقتنا الحالي، تحقيق الكثير في سبيل هذا التقريب.
ومن الطبيعي أن ما يمكن عمله الآن لا يمكن أن يتم على يد أي فرد واحد بعينه؛ فليس ثمة شخص واحد يملك المعلومات الموسوعية اللازمة للتنظيم الصحيح للمعلومات، حتى تلك التي سبق إثباتها. ومع ذلك، فلما كان كل تنظيم، بعد أن يبدأ بخطوط عامة خافتة غامضة، يتم عن طريق تعديلات وإضافات متعاقبة، فقد يتحقق النفع من أية محاولة (مهما كانت بساطتها) لجمع الحقائق المتراكمة حاليا - أو على الأصح فئات معينة منها - فيما يشبه النسق المنظم.
الفصل التاسع
الديالكتيك والمادية
كارل ماركس (1818-1883م)
Неизвестная страница