على أن هناك فلاسفة مسيحيين آخرين في القرن التاسع عشر لم يتمكنوا، كما سنرى فيما بعد، من السير في الطريق الذي مهده هيجل؛ فقد نظر بعضهم إلى تفسيره العقلي لفكرة المسيح في الكتب المقدسة على أنه مجرد خطوة أخرى نحو صبغها بصبغة دنيوية، ومن ثم نحو القضاء على الحضارة المسيحية بعد ذلك. ففي رأيهم أن طريقة تفسير الإنجيل تتجاوز تماما تلك الادعاءات الوجودية الجدية التي ينطوي عليها ذلك الكتاب. ولقد اتهمه خصمه الأكبر، كيركجورد، صراحة بأنه كان في قرارة نفسه ملحدا يخفي تجديفه وراء قناع من الرموز. ف «مسيحية» هيجل كانت في نظر كيركجورد نموذجا لمسيحية الدنيوي البرجوازي، الذي يسعى إلى التمتع بصفة مسيحية غامضة، بينما يرفض في الوقت ذاته التقيد بأي من التزامات العقيدة المسيحية.
ويمكن القول، دفاعا عن هيجل، إن نظرة المسيحية الأولى إلى العالم لم تعد، في رأيه اختيارا حيا للأذهان المفكرة التي ظهرت بعد عصري العقل والتنوير. والسبيل الوحيد إلى بقاء هذه الأذهان مسيحية، هو الأخذ بتلك المبادئ التي تنطوي عليها فلسفته الدينية. فاستحالة العودة إلى المنظور الديني للمسيحية الأولى لا تقل، من وجهة نظر هيجل، عن استحالة إحياء النظم السياسية اليونانية القديمة. وعلى الرغم من كل ما قاله هيجل عن المطلق، فقد كان عمق وعيه التاريخي - وبالتالي النسبي - من أكبر العوامل المنفردة التي أدت في القرن التاسع عشر إلى تدهور النزعة المطلقة الدينية والفلسفية. ولقد بلغ من سخرية الأقدار من نوايا هيجل، أن القضاء على المطلق قد تم، إلى حد بعيد، على يديه هو ذاته.
والنص الآتي مقتطف من مقدمة كتاب هيجل «محاضرات في فلسفة التاريخ».
5 ⋆ «والنوع الثالث من التاريخ هو التاريخ الفلسفي. ولم يكن النوعان السابقان بحاجة إلى إيضاح، بل كان تصورهما مفهوما بذاته. والأمر ليس كذلك في هذا النوع الأخير الذي يبدو أنه يحتاج قطعا إلى شرح أو تبرير. وأعم تعريف يمكن الإتيان به هو أن فلسفة التاريخ لا تعني إلا تأمله من خلال الفكر. والفكر في الواقع أساس للبشر، وهو الذي يميزنا عن البهائم. والفكر عنصر مشترك يظهر في الإحساس والتعرف والتعقل، وفي غرائزنا بقدر ما تكون بشرية بحق. ولكن تأكيد أهمية الفكر في هذا الصدد مع التاريخ قد لا يبدو أمرا مرضيا؛ إذ يبدو كأن من المحتم على الفكر، في التاريخ، أن يخضع لما هو معطى؛ أي لما هو موجود، بحيث يبدو هذا الأخير كأنه هو أساس هذا العلم وموجهه، في حين أن الفلسفة تنتمي إلى مجال الأفكار التي يجلبها النظر الفكري (
Spekulation ) من ذاته، دون إشارة إلى الواقع الفعلي. فإذا ما طرق النظر الفكري مجال التاريخ متأثرا بهذا الرأي، فقد يتوقع منه أن ينظر إلى التاريخ على أنه مادة سلبية فحسب، وأن يرغمه على الاتفاق مع فكرة تسوده، بدلا من أن يتركه في حقيقته الأصيلة، وأن يشيده، كما تقول العبارة المعروفة «بطريقة أولية». ولكن لما كانت مهمة التاريخ لا تزيد على أن يضم إلى سجلاته ما هو الآن، وما كان من قبل، حوادث وأفعالا، ولما كان يغدو أصدق بقدر ما يتمسك بالوقائع الموجودة بدقة، فيبدو لذلك أن الفلسفة عملية مضادة تماما لعمل المؤرخ. وسوف نعمل فيما بعد على إيضاح ودحض هذا التناقض، ومعه التهمة التي توجه نتيجة لذلك إلى النظر الفكري. ومع ذلك فليس في نيتنا تصحيح التشويهات الخاصة الهائلة العدد، التي ظهرت من قبل ويتكرر ظهورها على الدوام، بشأن أهداف البحث التاريخي وعلاقته بالفلسفة، وفوائد هذا البحث وطرقه.
إن الفكرة الوحيدة التي تدخلها الفلسفة على تأمل التاريخ، لا تعدو أن تكون فكرة «العقل»؛ أي الفكرة القائلة إن العقل يسود العالم، وإن تاريخ العالم بالتالي يكشف لنا عن عملية عاقلة. هذا الاعتقاد والحدس هو فرض في مجال التاريخ من حيث هو تاريخ فحسب، أما في مجال الفلسفة فهو ليس فرضا، بل إن المعرفة النظرية (
spekulative ) تثبت في هذا المجال أن العقل - وهو في هذا المجال تعبير كاف، دون بحث العلاقة التي تربط الكون بالكائن الإلهي - هو جوهر، فضلا عن كونه قوة لا متناهية، وأن مادته اللامتناهية - الكامنة من وراء كل حياة مادية وروحية تولدها، هي أيضا الصورة اللامتناهية - هي التي تبعث الحركة في تلك المادة. وفضلا عن ذلك فالعقل هو الجوهر، الذي تكتسب كل حقيقة وجودها وبقاءها في الوجود منه وفيه. وهو القوة اللامتناهية للكون؛ إذ إن العقل ليس من العجز بحيث يعجز عن إنتاج أي شيء ما عدا مجرد مثل أعلى، ومجرد مقصد، مكانه يقع خارج الواقع، حيث لا يعلم أحد؛ أعني شيئا مفارقا مجردا، في رءوس بعض الكائنات البشرية. كما أن العقل هو المركب اللانهائي للأشياء، وهو ماهيتها وحقيقتها الكاملة، وهو مادة ذاته، التي تعهد بها ذاته إلى فاعليتها لتشكيلها؛ إذ إنه لا يحتاج، كما يحتاج الفعل المتناهي، إلى شرط مادة خارجية مؤلفة من وسيلة معينة، يكتسب منها دعامته وموضوعات فاعليته، وإنما هو يأتي بغذائه الخاص معه، وهو موضوع عملياته. وإلى جانب كونه هو الشرط الوحيد لوجوده الخاص، وهدفه النهائي المطلق، فإنه أيضا القوة الفعالة العاملة على تحقيق هذا الهدف، وبعثه، لا من باطن ظواهر الكون الطبيعي فحسب، بل من باطن ظواهر الكون الروحي أيضا؛ أي في تاريخ العالم. أما أن هذه «الفكرة» أو «العقل» هي الماهية الحقة، الأزلية الفعالة على نحو مطلق، وأما أنها تتكشف في العالم، وأنه لا شيء في هذا العالم يتكشف سوى هذه الفكرة أو العقل وشرفه ومجده، فتلك هي القضية التي ثبتت، كما قلنا، في الفلسفة، والتي نعدها هنا مبرهنا عليها. •••
وسأكتفي هنا بذكر صورتين ووجهتي نظر تتعلقان بالاعتقاد المنتشر عامة بأن العقل قد ساد العالم وما زال يسوده، وبالتالي ساد تاريخ العالم؛ ذلك لأنهما يتيحان لنا في آن واحد فرصة للقيام باختبار أدق للمسألة الرئيسية التي تتمثل فيها أعظم صعوبة، ولإيضاح ما سيكون علينا التوسع فيه فيما بعد.
إحدى هاتين النقطتين هي تلك الرواية التاريخية التي تنبئنا بأن أنكساجوراس اليوناني كان أول من نادى بالمذهب القائل إن «النوس
nous »؛ أي الذهن عامة، أو العقل، هو الذي يحكم العالم. وليس المقصود هنا هو الذكاء بوصفه عقلا شاعرا بذاته - ولا الروح بما هي كذلك - فهذان معنيان ينبغي تمييز كل منهما من الآخر. فحركة النظام الشمسي تحدث وفقا لقوانين ثابتة، وهذه القوانين هي العقل من حيث هو كامن في الظاهرة المشار إليها. ولكن لا الشمس ولا الكواكب التي تدور حولها وفقا لهذه القوانين، لديها وعي بتلك القوانين. •••
Неизвестная страница