ولقد وصف هيجل كتاباته بأنها «محاولة لجعل الفلسفة تنطق بالألمانية.» ولو صح هذا، لكانت تلك لغة ألمانية لم ينطق بها أحد قبله. ولقد وصف البعض كتابة هيجل بأنها «حبلى»، وهو وصف لا بأس به؛ فهيجل لا يقدم إلينا النتيجة النهائية قط، بل يظل دائما ثمة وصف آخر ينبغي إطلاقه، ومنظور جديد ما ينبغي النظر إلى أية فكرة من خلاله. والنتيجة هي أن قراءة هذه الكتابات ليست هينة؛ فكتابة هيجل مركزة، مدققة، متقنة، مثقلة بالمعاني، ونادرا ما يقول ما يعنيه، أو يعني ما يبدو أنه يقول. فالوصف هو في رأيه ماهية الحقيقة. والنتيجة هي أن الناقد المجهد ييأس آخر الأمر من أن يقول عنه شيئا لا يكون باطلا، أو لا يكون مضللا - والصفة الثانية لا تختلف كثيرا في رأي هيجل عن الأولى. ومع ذلك فإن أسلوبه الذي يغلب عليه اللون الرمادي الباهت، له سحره الغريب، وعندما ننتهي من قراءته، يكون قد فتح أمامنا، على نحو ما، آفاق عالم فلسفي. وإذا كانت الأشياء في ذلك العالم لا تتحرك على طريقتها المعتادة، فإنها مع ذلك تتحرك، والبراعة إنما تكون في تعلم طريقة رؤيتها.
وتظهر في فلسفة هيجل أول محاولة كاملة للنظر إلى جميع المشاكل والتصورات الفلسفية، ومنها تصور العقل ذاته، من خلال منظور تاريخي في أساسه. فليس لأية فكرة، في نظر هيجل، معنى ثابت، وليس لصورة الذهن صحة أزلية ثابتة. ولقد نظر معظم الفلاسفة السابقين، وضمنهم كانت، إلى الطبيعة والذهن من وجهة نظر المقولات والقوانين السكونية التي تفرض أزلا، ويعاد فرضها، على الكثرة المتغيرة من الأشياء الجزئية. وتصور كانت الذهن على أنه قوة فاعلة إيجابية مشكلة، غير أن مقولات الذهن وأوامر العقل العملي ليست في رأيه معرضة للتغير. أما هيجل فينظر إلى كل شيء - ما عدا فلسفته هو، على الأرجح - من منظور التاريخ. ولقد نظر الفلاسفة السابقون عليه إلى ما هو جزئي على أنه، بما هو جزئي، غير قابل للفهم. وكانت كل معرفة في نظرهم متعلقة بالكليات، والمعرفة الفلسفية هي أعم المعارف كلها. أما هيجل فقد نظر إلى الخاص أو الجزئي وحده على أنه هو الذي ينبغي أن يفهم، وإن كان قد رأى أنه لا يمكن أن يفهم فهما كاملا إلا إذا تأملناه في علاقته بكل شيء آخر. وكل ما هو جزئي هو، من غير علاقاته، «مجرد جزئي»، وبالتالي مجرد تجريد آخر. وإذا تأملنا الجزئي عينيا كما هو في حقيقته، لما كان له وجود إلا في علاقاته بكل ما يحيط به. وفي مثل هذا الفهم للجزئي، لا يعود منظورا إليه على أنه «جوهر» أو «شيء»، ويصبح عملية حادثة دائمة التغير. ولهذا السبب كان «الوعي التاريخي» هو وحده الذي يدرك الواقع كما هو؛ أي من حيث هو عملية صيرورة.
ففلسفة هيجل إذن فلسفة تغير، شأنها شأن تفكير هرقليطس، الفيلسوف القديم السابق على سقراط، والذي كان هيجل شديد الإعجاب به. ومع ذلك فبين الاثنين فوارق هامة؛ فهرقليطس يرى أن «الدوامة هي السائدة»، غير أن الاستعارة توحي بأن هرقليطس، مثله مثل معظم الفلاسفة اليونانيين الآخرين، قد اعتقد بأن التغير خاضع لمبدأ عاقل (لوجوس) أو قانون هو ذاته ثابت لا يتغير. أما هيجل فقد نظر إلى التاريخ على أنه يعني التطور، وكل عملية تاريخية هي شيء جديد تحت الشمس، وليس ثمة شيء مشابه تماما لأي شيء سابق عليه. وعلى كل قانون صحيح للتغير التاريخي أن ينظر إلى هذا التغير، لا على أنه تعاقب لدورات من التغير أزلية العود، بل على أنه تطور تدريجي تعد كل مرحلة أو «لحظة» فيه (حسب تعبير هيجل) نتيجة ضرورية لما قبلها ومختلفة أساسا عنه.
ومن المؤسف أن نظرية هيجل في التطور التاريخي لا يمكن أن تفهم فهما كاملا دون إشارة إلى ديالكتيكه أو «منطقه» الشاذ، ولعلنا نذكر أن كانت قد رأى أن العقل الخالص عندما يحاول أن يمد تطبيق مقولات كالعلة والمعلول إلى ما وراء التجربة، ينتهي حتما إلى تناقضات لا سبيل إلى رفعها. ولذا رأى أن النظر الميتافيزيقي في العلة النهائية للأشياء هو بحث عقيم تماما. ومع ذلك فقد كان في وسعه أن يسير في الطريق الأكثر جسارة، والأكثر تسرعا في نظر معظم الفلاسفة، ألا وهو قبول هذه المتناقضات بوصفها معبرة، بذاتها، عن طبيعة الأشياء. وذلك في الحق هو الطريق الذي سار فيه هيجل؛ فقد استعان هيجل بفشته إلى حد ما في تحويل مذهب كانت في التعارض الديالكتيكي المحتوم للقضايا الميتافيزيقية - وهو التعارض الذي عده كانت علامة لا تخيب على خداع الميتافيزيقا - إلى منطق جديد للحقيقة الفلسفية . فالتقابل الديالكتيكي عند هيجل يميز كل تفكير صحيح عن الواقع . وكل قضية، كما رأى كانت، تولد قضيتها المضادة. والأمر الذي غاب عن ذهن كانت هو أن من الممكن النظر إلى القضية والقضية المضادة على أنهما صحيحتان إذا ما فهمت الاثنتان، في ضوء جديد، على أنهما تعبيران ناقصان عن قضية أعلى وأشمل، تضم ما له أهمية في كل منهما. مثل هذه القضية هي ما يطلق عليه هيجل اسم «القضية المركبة».
وإذا شئنا تعبيرا أدق من ذلك، لقلنا إن كل تناقض هو في نظر هيجل علاقة أو إضافة متنكرة، وإذن فمن الممكن النظر إلى أي تناقض على أنه لا يعدو أن يكون وصفا مجردا، وبالتالي ناقصا، لحقيقة أشمل، حقيقة تفهم عينيا على نحو أكمل. ولقد كان منطق أرسطو التقليدي، الذي رأى هيجل أنه لا يصلح لفهم التغير. ينظر إلى نقيض أي «أ»، على أنه دائما «لا - أ» التي تستبعد «أ» تماما. وكل أ، حسب قانون عدم التناقض التقليدي، هي دائما لا لا - أ. أما هيجل فيرى أن أية لا - أ، بما هي كذلك فحسب، هي لا وجود بحت، وتجريد خالص لا يتميز عن العدم التام. وإذن، فإذا شئنا أن يكون لأي تناقض معنى إيجابي، فلا بد أن تفهم لا - أ على أنها «ب»؛ أي على أنها شيء إيجابي ذو طابع خاص به، ولكنا إذ نتصورها على هذا النحو، نرفع التناقض على التو، ونستبدل به تركيب إضافة يمكن أن يرمز إليه الآن على هذا النحو «أ ض ب».
1
وإذن فكل تفكير صحيح عن الواقع ينطوي على حركة ثلاثية من قضية أ، إلى نقيضها لا أ. وهذا بدوره يؤدي إلى مركب يؤدي إلى تغيير الطريقة التي تفهم بها أو لا - أ معا. ولكن لا بد أن يولد هذا المركب نقيضا جديدا لا يمكن رفعه إلا بمركب أعلى منه. ثم يعود الديالكتيك إلى الحركة مرة أخرى. ويرى هيجل أن هذه الحركة لا نهاية لها.
وربما لن يدهش القارئ إذ يعلم بعد هذا كله أن هيجل يتهم في كثير من الأحيان بمناقضة نفسه في كل مناسبة . ولا شك في أن هذا يحدث بالفعل، ولكنه يستطيع على الأقل أن يؤكد المزايا الكامنة في عيوبه هذه؛ فالتناقض عنده ليس علامة على التخبط العقلي، وإنما علامة على القدرة الإبداعية والبصيرة. وعلى الفيلسوف الحق أن يرحب به بوصفه حافزا على تكوين مركب جديد يكون أصدق تمثيلا لموضوعه. وليس للتناقض الذاتي، بالنسبة إلى البشر، نهاية، وبالتالي فلا نهاية للتطور العقلي. فإذا لم يكن أمام الذهن البشري مكان نهائي يسكن إليه، ففي وسعنا أن نعزي أنفسنا إذ نتذكر، على الأقل، أن أفكارنا تتسع في نطاقها وترتفع في مستواها. ولا شك أن هناك ذلك المطلق الذي نظر إليه هيجل، بطريقته الشاذة، على أنه الحقيقة العينية الوحيدة، ولكنا لا نستطيع الوصول إليه إلا على نحو مجرد، بوصفه مثلا أعلى لا يتوصل إليه.
ولا يفرق هيجل بين منطقه وميتافيزيقاه؛ فالديالكتيك، كما يفهمه، قانون للفكر وقانون للوجود في آن واحد، ولو نظرنا إلى الأمور نظرة سطحية لقلنا إن الشيء الذي تبدو له في نظرنا أكثر حقيقة، هو الشيء الفردي أو الجوهر. ولكنا إذا تأملنا هذا الشيء الفردي أو الجوهر في ذاته، لوجدناه يستحيل إلى مجرد تجريد؛ أي مجرد «وجود» لا يمكن تمييزه من أي شيء آخر. ولنقل إن أي شيء لا يغدو حقيقيا
real ، إلا بقدر ما يختفي فيه الطابع الجزئي المجرد، مثلما أن الكائن البشري في نظر هيجل لا يصبح شخصا إلا بقدر ما يتنازل عن ادعائه الفردانية ويقنع بأن يعد وجها من أوجه الكل الاجتماعي الذي ينتمي إليه. فالجزئي البحت مجرد، والكل العيني هو وحده الحقيقي. والكيان الوحيد الذي يتصف بالعينية أو الحقيقة الكاملة هو ذلك الكل الذي لا يعبر عنه؛ أي «المطلق» ذاته، وكل ما عدا ذلك - إن كان ثمة أي شيء عدا ذلك - ليس إلا «لحظة» في المطلق. وهكذا ينتهي به الأمر إلى فكرة ممتنعة يقصد منها القضاء على كل الأفكار الممتنعة؛ إذ يرى أن الحقيقية العينية الوحيدة تظل في نظرنا مثلا أعلى للعقل يتحقق دائما بعمليات خاصة ليس لها أي وجود «حقيقي ».
Неизвестная страница