وأفضل كتابات فشته تلك الكتابات الأولى التي كان لا يزال فيها واقعا تحت تأثير كانت، أما كتاباته المتأخرة فأقل طرافة، وأقل تشويقا بكثير. فلقد بدأ بدفاع قوي عن المثل العليا التي استهلتها الثورة الفرنسية، مؤكدا بحماسته المعروفة أن للفرد حقوقا لا يمكن مطلقا أن يسلبه إياها أحد، وأن حرية الكلام والفكر ضرورية، وأن لكل شعب حقا أخلاقيا في الثورة على أي نوع من الحكم تقمع فيه حرياته. ولكنه حين تحول فيما بعد إلى وطني ألماني متعصب، أغضبه غزو نابليون لوطنه، ألف كتابه المشهور «نداءات إلى الأمة الألمانية»، الذي تظهر فيه بوضوح نزعة عنصرية وقومية عنيفة جعلت بعض نقاده يعدونه سلفا مباشرا للنازية. وفي آخر أطوار تفكيره، تحولت نزعته الفردية الأولى تدريجيا إلى مذهب لتمجيد الدولة قائم على أسس تاريخية الوجهة ، وهو مذهب يتزايد فيه إخضاع حرية الأنا الفردي «للروح المطلقة» في تكشفها الذي يتبدى تاريخيا في حياة المجتمع، أو يؤكد أن تلك الحرية هي ذاتها هذه الروح المطلقة.
وهكذا يشبه تطور فشته، في هذا الصدد، تطور كثير من الرومانتيكيين الآخرين في عصره، ممن بدءوا ثوارا وانتهوا محافظين أو أسوأ من المحافظين.
وثمة طريقتان لفهم فلسفة فشته، تقترب كل منهما من الأخرى كثيرا في نهاية الأمر. الطريقة الأولى لفهمه تسمى عادة بالطريقة «الأخلاقية»، والثانية تسمى ب «الميتافيزيقية». وسبب تقاربهما في نهاية الأمر هو أن الميتافيزيقا ليست عند فشته علم العلوم
superscience ، وإنما هي نسق من مواقف الإرادة أو تأكيداتها؛ فالواقع
reality
كما يفهمه، ليس مقترنا بما يقال عنه إنه «موجود
exist » بأي معنى مألوف، وإنما بما تعده الإرادة ضروريا لتحقيق غاياتها الخاصة. ففي فلسفته يقضى آخر الأمر تماما على أي تمييز بين ما ينبغي أن يكون وما هو واقع؛ ولهذا السبب لم يكن لديه أي تمييز قاطع بين الأخلاق أو الأيديولوجية الأساسية وبين الميتافيزيقا. فمن العبث، من وجهة نظر فشته، أن نتساءل، على طريقة العالم، عما إذا كان ثمة إله؛ فمثل هذه الطريقة في وضع هذه الأسئلة تشوه تماما دلالتها، التي هي دلالة عملية لا نظرية؛ فالشخص الذي يشك فيما إذا كان ثمة عالم خارجي ليس في حاجة إلى دليل، وإنما إلى علاج؛ فإخلاصي في سعيي وجدي في عملي هو وحده الكفيل بجعل العالم الخارجي حقيقة بالنسبة إلي. كما أن ذاتي ومقتضياتها هي التي تأتيني بالضمان الوحيد الممكن للإيمان بالله. والواقع أن فشته لا يرى فارقا أساسيا، في نطاق المسائل الميتافيزيقية، بين الاعتقاد بالشيء وبين الإيمان به. فأي شي يكون حقيقيا من الوجهة الميتافيزيقية إذا تحتم علينا الإيمان به، أو إذا شئنا ذلك، حتى لو لم يكن يوجد سبب، بالمعنى المعتاد، للقول بوجوده.
كل هذه الآراء تبدو خيالية جامحة إذا لم يتأملها المرء دائما في ضوء التعاليم الكانتية الكامنة من ورائها. أما إذا تتبعنا استدلالات فشته المعقدة من خلال هذا المنظور على الدوام، فسوف يبدو مذهبه أقرب إلى المعقول إلى حد ما . ويضع فشته، في البداية، تقابلا بين فلسفتين يطلق عليهما اسم «التوكيدية» و«المثالية». وهو يرى أن الأساس النهائي الوحيد لاختيار المرء بينهما هو ملاءمة الفلسفة التي يختارها «لنوع الإنسان الذي يكونه ذلك الشخص». وهنا يقول فشته في الواقع بذلك الرأي الذي يؤمن به الكثيرون، وإن كان القليلون هم وحدهم الذين يعترفون به، وأعني به أن الالتزامات النهائية تحدث آخر الأمر بناء على أسس تنتمي إلى مجال الطبع أكثر منها إلى مجال البرهان. والأهم من ذلك أنه يقول إن هذه الالتزامات سابقة على المعقولية؛ إذ لا يمكن أن تفهم الأحكام المتعلقة بما هو معقول أو صحيح إلا في علاقتها بهذه الالتزامات. إن الفيلسوف الواقعي يسلم، دون تمحيص، بوجود عالم من الأشياء المستقلة الحقيقية التي لا تختبر حقيقة أفكارنا أو مطابقتها إلا عن طريقها، وينسى أن مجرد القول بوجود هذا العالم معناه اتخاذ موقف فلسفي تعد معطيات التجربة بالنسبة إليه محايدة تماما.
إن التوكيدية هي فلسفة أولئك الذين يحتاجون إلى سلطة خارجية، ولو كانت سلطة عقل لا شخصي «موضوعي» يستطيع المرء بوصفه «كائنا عاقلا» أن يرتكن إلى قوانينه أو قواعده؛ فالفلاسفة العقليون، من أمثال ديكارت واسبينوزا، كانوا توكيديين، غير أن توكيديتهم تقضي على ذاتها إذ تعجز عن تبديد شكوكهم الفلسفية الباقية. إنهم حقا يتحدثون كما لو كانت المعرفة هي الغاية القصوى للحياة الفلسفية، ولكن المعنى الذي يتضح أنهم يستخدمون به كلمة المعرفة لا يعدو أن يكون الحدس السلبي. وهكذا ينتهي الأمر فعلا بالعقليين إلى التوحيد بين المعرفة وبين التأمل الحسي على نحو يقضي بطريقة غريبة على التفرقة بين ما هو حقيقي بالفعل
real ، وما هو غير حقيقي
Неизвестная страница