الفصل العاشر
المعتصم و«سامرا»
ظلت جهان واقفة تنظر إلى الأفشين حتى غادر غرفتها، فرفعت بصرها إلى صورة مطرزة على ستارة الحائط تمثل وجه أبيها، وتنهدت تنهدا عميقا وأحست بضعف مفاصلها كأنها خارجة من عمل شاق فألقت نفسها على الكرسي، والتفتت إلى ما حولها وناجت نفسها قائلة: «آه يا جهان، أواه يا عروس فرغانة! ما الذي دهاني في هذين اليومين؟» مات أبي، وحسنت السفر لحبيبي. ولكن لا بأس من سفره حتى لا يعلم بما يضمره ذلك الشيخ الجاهل - قبحه الله من ملك صعلوك وتبا له من قائد مغرور! أيطمع في جهان وهي أبعد عنه من الثريا؟ ما لي لم أقل له إن قلبي لضرغام؟ ولكني لو قلت ذلك لعرضت حبيبي للخطر. حبيبي ضرغام أين أنت؟!» ولما ذكرت اسمه وتذكرت بعده عنها انقبضت نفسها واستسلمت للبكاء؛ فأطلقت لدموعها العنان وهي تحاذر أن يسمع صوت بكائها أحد، وكأنها نسيت نفسها وهون عليها البكاء آلامها فأغرقت فيه. وفيما هي في ذلك أعادها إلى نفسها أن سمعت وقع خطوات مسرعة نحوها، فالتفتت فإذا بالقهرمانة دخلت مذعورة وقد فتحت ذراعيها كأنها تهم بأن تضمها إليها، فترامت جهان بين ذراعيها وقد أخذها الخجل لما بدا من ضعفها فابتدرتها خيزران قائلة: «ما بالك يا سيدتي، ماذا أصابك؟»
فقالت وهي تتجلد وتمسح دموعها: «أتستغربين بكائي يا أماه وقد فقدت أبي بالأمس؟ إن مصيبتي بفقده مضاعفة!»
ولم تكن خيزران غافلة عما دار بين جهان والأفشين وإن لم تسمعه، ولكنها أدركت شيئا منه لما رأت وجه الأفشين عند خروجه فقالت: «صدقت، إن وفاة سيدي المرزبان رزء عظيم، خصوصا إذا خلفه مثل هذا الوصي!» وغصت بريقها وهمت بجهان فضمتها وقبلتها وقالت: «أنا أعلم سبب بكائك فلا تهتمي، واعلمي أني أضحي بحياتي في خدمتك، وكذلك كل أهل القصر بل أهل فرغانة جميعا يفدونك بأنفسهم.»
فتخلصت جهان من بين ذراعي خيزران بلطف، وأشارت إليها أن تقعد إلى جانبها، فجلست وهي ترمق جهان ولا ترتوي من النظر فرأت وجهها تغير من الحزن والقنوط إلى الاهتمام والجد وأطرقت وبدا التفكير في عينيها وجبينها. وطال سكوتها وخيزران مصغية تنتظر ما يبدو منها وما تريد أن تقوله، وأخيرا وقفت جهان فجأة ونظرت إلى خيزران نظرا حادا وقالت: «لا مقام لي بهذه الديار بعد الآن!»
فصعقت خيزران عند سماعها ذلك منها ووقفت وصاحت قائلة: «ماذا تقولين؟!»
قالت: «ينبغي أن أترك هذا القصر، يجب أن أسافر حالا.»
قالت: «وإلى أين؟ كيف تتركينه وفيه كل مالك وقد ربيت فيه؟! لمن تتركينه؟»
قالت: «أتركه للطامعين فيه. أتركه للأفشين والموبذ !»
Неизвестная страница