قالت: «اذهب في حراسة الله.» فودعها وخرج بعد أن أرسل من يستقدم وردان.
الفصل الثامن
موت المرزبان ووصيته
خيل إلى جهان أن قلبها يتحفز للذهاب في أثر ضرغام، فتماسكت واسترجعت رشدها وفكرت فيما هي فيه من أسباب القلق والاضطراب لمرض أبيها فإنه إذا مات تصبح يتيمة ليس لها إلا أخوها، وهو لا يؤمن جانبه ولا يعول عليه. وذكرت خلوة أبيها بالموبذ والأفشين فخفق قلبها خوفا من تلك الخلوة وقامت في ذهنها هواجس كثيرة ومخاوف شتى؛ لما تعلمه من مطامع الموبذان ودسائسهم ولا سيما بعد أن تحولت الكهانة إلى مرتزق لهم ومورد للأموال.
والعقائد إذا تقادم عهدها وتولاها أهل المطامع دب إليها الفساد وأصبحت شرا على الناس من الكفر. وعلى ذلك لم تكن جهان شديدة الأخذ بأسباب دينها. وإنما كانت على الزردشتية مذهب أبيها على غير تفهم أو نقد؛ لأنها ولدت فيها فشبت عليها كما شبت على سائر عاداتها وأخلاقها. وهذا شأن السواد الأعظم من العامة فإنهم يدينون بما يألفونه من صغرهم، وإذا كبروا وتثقفوا ودلهم العلم على مظنة للنقد فيه اغتفروها في جانب ما غرس في قلوبهم وعقولهم من مبادئه، فأصبح الدين كالجنس يغضب له المرء وينصره غيرة وحمية كما ينصر عرضه ويذب عن حياضه.
وكانت تنظر إلى الموبذان وأمثاله مستخفة بما يقولونه ويزعمونه ، فلم تكن تحذرهم لاعتقادهم أنهم يعجزون في كل شيء عدا اكتناز الأموال. فلم يكن اختلاء الموبذ بأبيها ليهمها لو لم يكن الأفشين معه وهي تكرهه بلا سبب ظاهر. وتخافه لأنه ملك ذو أعوان وجند. على أن أباها كان يجله ويعول عليه.
ووقع بصرها عفوا على بساط في الغرفة رأت عليه من الرسوم المزركشة صورة أسد رابض عيناه كأنهما شرارتان فتذكرت حبيبها لأن اسمه من أسماء الأسد. فلما ذكرته ذهبت مخاوفها لعلمها بأنه ما دام بقربها فلا خوف عليها.
بقيت جهان مستغرقة في هواجسها، حتى سمعت وقع أقدام أدركت أنها لخيزران القهرمانة فخفق قلبها توقعا لخبر تسمعه، فلما دنت منها قالت: «إن سيدي المرزبان يدعوك إليه. تجلدي يا جهان وكوني كما أعهدك.»
فأوجست خيفة من تحذيرها ولم تسألها عن السبب اعتمادا على قدرتها في تحمل الصدمات، وأكبرت أن تبدي جزعا فمشت مسرعة، وذكرت أنها سترى الموبذ والأفشين عند أبيها فانقبضت نفسها وظلت سائرة حتى وصلت إلى باب الغرفة فوسع لها الحاجب فدخلت وعيناها إلى سرير والدها. فرأته مستلقيا وعيناه شاخصتان إلى الباب وقد غشيهما الدمع وتكسرت أهدابهما من البكاء. وحالما وقع بصره عليها ابتسم ابتسامة لا حياة فيها، ولولا بريق تينك العينين وما يتحلى فيهما من الحنو والمحبة لظننته ميتا. فتمالكت ودنت من السرير، فلما رآها أحس بنشاط جديد فبسط ذراعيه وفتح فاه ليكلمها فامتنع عليه النطق فاكتفت بحركات شفتيه وترامت على صدره، ولولا ثبات جأشها لأغمي عليها؛ لأنها تحققت في تلك اللحظة أنها لا تلبث أن تصير يتيمة وحيدة.
فأمسكت بذراعي أبيها المحتضر ونظرت في وجهه نظرة الاستعطاف كأنها تتوسل إليه ألا يتركها، فسبقتها العبرات وبكت وهي تمسك أنفاسها لئلا يسمع شهيقها وأطرفت لئلا تظهر دموعها.
Неизвестная страница