ورجعت إلى ما كانا فيه فقالت: «والآن ألا تبوحين لي بما شغلك؟»
فأعظمت جهان أن يغلب عليها الضعف إلى هذا الحد أمام مربيتها، فتحركت فيها الأنفة وقالت: «لا تستضعفيني يا أماه فقد تكونين واهمة، وإلا فاذكري لي سبب كدري إن كنت تعلمين.»
فقالت: «إن ضرغام هو السبب!»
فلما سمعت جهان ذلك خفق قلبها وعاد الدم إلى وجنتيها وأبرقت عيناها فابتدرتها خيزران قائلة: «لا تنكري يا حبيبتي فعيناك تشهدان بأنك تحبين ضرغاما!»
فسكتت جهان منتظرة أن تسمع من خيزران استحسانا أو استهجانا لذلك الحب، فقالت القهرمانة: «إن ضرغاما شاب جميل وشجاع باسل، لا مثيل له في فرغانة ولا في غيرها من بلاد فارس.»
فقالت: «فهمت أنه شجاع وجميل ثم ماذا؟»
فهمت خيزران بأن تصرح برأيها ولكنها خافت على جهان فأطرقت وسكتت. فقالت لها جهان بصوت هادئ وجأش رابط: «صرحي يا أماه ولا تخشي شيئا.»
فقالت: «ليس في العالم أحسن من ضرغام لولا نسبه؛ فليس في فرغانة من يعرف أصله ونسبه حتى هو لا يعرف من أبوه.»
قالت جهان وهي تتشاغل بإصلاح القوس على كتفيها: «وماذا يقول الناس عنه؟»
قالت: «يقولون إنه مثال الشجاعة وكرم الخلق، عدا جماله وعلو همته وكبر نفسه. لكنهم يتساءلون عن نسبه، وأنا أذكر أمه عندما أتت إلى فرغانة تحمله، وكانت في إبان شبابها جميلة الطلعة، وقد خطبها غير واحد من أهل فرغانة فأبت أن تتزوج وانصرفت إلى تربية ابنها، فقد كانت على فقرها شديدة العناية به، ثم سمع سيدي المرزبان بخبرها فدعاها إليه وسألها ما خطبها فتكتمت في بادئ الأمر، ثم ذكرت أنها أخذت طفلة من حضن أمها في بادية الترك ونشأت في منزل أحد النخاسين بالعراق حتى انتهت إلى رجل من أهل تلك البلاد فأعتقها وتزوجها، ثم توفي قبل أن تضع حملها، فلما وضعته أحبت الانقطاع إلى تربيته. وقد شك سيدي المرزبان في قولها وأحب أن يجربها فعرض عليها أن يزوجها من أحد رجاله فأبت واعتذرت؛ فازداد شكا في حديثها، وأنزلها بجانب قصره وأمر لها بما تحتاج إليه من أسباب المعيشة، وكانت تحسن الخياطة وتعمل مع خدم القصر حتى أصيبت بالرمد وكف بصرها فكفت عن العمل وظلت في بيت أبيك كما تعلمين. ولما شب ضرغام تعلم ركوب الخيل والرمي بالنشاب وظهرت فيه سجايا نبيلة؛ فجعله مولاي المرزبان في جملة أعوانه. وكان يحبه ويجل مناقبه حتى بعث الخليفة المعتصم منذ بضعة أعوام إلى هذه البلاد ليجند الرجال من الأتراك والفراغنة والأشروسنيين، فتطوع ضرغام لخدمته. وكنت قد لحظت ما بينكما من الحب المتبادل الذي تحاولين الآن إخفاءه، ولكنني عجبت لذهابه وغيابه كأنه رأى نفسه أقصر باعا من أن ينالك للتباعد بينكما في المقام والنسب!»
Неизвестная страница