Арабский между двумя культурами
عربي بين ثقافتين
Жанры
وعلى أساس هذه الخريطة للوحدات الهيكلية في السلوك البشري، رأينا أن مكمن السر في خصوصية الوقفة الثقافية عند الفرد الواحد، أو عند شعب في مجموعه هو في الحلقة الوسطى؛ فالفردان من ثقافتين مختلفتين، قد يشتركان في مثير واحد كأن يفاجئهما معا حيوان مفترس، فتجيء الحلقة الوسطى التي تختلف في أحدهما عنها في الآخر، فتحمل أولهما على الفرار التماسا للسلامة، وتحمل الثاني على محاولة اصطياد الحيوان طمعا في فرائه الثمين. وقريب من هذا المثل، ما يحدث في دنيا السياسة، فيعتدي مستعمر على إقليم معين ابتغاء سلبه لخيراته، وها هنا قد تحمل الحلقة الوسطى أهل إقليم معتدى عليه، تحمله على أن ينكمش أمام المعتدي حفظا للأرواح، في حين تدفع الحلقة الوسطى عند شعب آخر على مخاطر المقاومة حتى ولو فني أفراد الشعب جميعا. ونستطيع أن نستطرد في ضرب الأمثلة حتى تشمل الحياة الثقافية في جميع ميادينها؛ السياسية وعلاقة الحكومة بالشعب، الفن وما هو مقبول منه وما هو مرفوض، معاملة الحيوان الأليف والنظرة إلى الموت، الاهتمام بالطبيعة في مختلف ظواهرها ... إلخ ... إلخ، فحاصل الجمع لصور السلوك تجاه هذا كله، هو «ثقافة» الشعب من جانبها الفعلي، الذي يعود بدوره فينعكس في ثقافة المبدعين من ذلك الشعب أنغاما وشعرا، ورواية وحكمة وتصويرا وغير ذلك من صور الإبداع.
وإن مضمونات الحلقة الوسطى هذه، لا تأتي من فراغ، بل هي - كما أسلفنا - وليد التربية والنشأة. وهذه بدورها لم تولد من لا شيء، بل استحدثتها «مبادئ» غرست في ضمير الإنسان غرسا نتيجة لمجموعة الأوامر والنواهي.
وعند هذه «المبادئ» نقف وقفة قصيرة فنسأل: أيجوز للإنسان - فردا أو شعبا - أن يغير من تلك المبادئ وفق ما يقتضيه ازدهار الحياة العملية؟ وعن هذا السؤال يجيئنا جوابان؛ فللعربي في جملته جواب بالنفي القاطع؛ لأن تلك المبادئ إنما هي محاور الحياة كلها، وهي ليست من صنع جيل واحد أو جيلين، بل هي مسيطرة من أول يوم في تاريخ الشعب، ثم هي ليست من صنع أحد من الناس، بل هي أوامر ونواه جاءت للناس وحيا عن طريق الأنبياء والرسل. وأما جواب إنسان الغرب في عصره هذا - لم يكن كذلك دائما - فهو أن مبادئ الحياة متساوية في موقعها مع مبادئ البحث العلمي ؛ فكما يبدأ البحث العلمي في ظاهرة معينة بافتراض ما يفسر تلك الظاهرة ويستخرج قانونها، فإذا أفلحت نتائج ذلك البدء الافتراضي، كان بها، وإلا فلا حرج في أن نستبدل به بدءا آخر لعله يعين على نتائج أفضل وأقرب إلى الصواب، فكذلك يكون الأمر في نقاط البدء عند مواجهتنا لمواقف الحياة العملية (وما «المبادئ» إلا نقاط بدء) بمعنى أننا إذا توارثنا مبدأ في الحياة وتبين لنا نجاحه فيما أردنا أن ننجح فيه، كان بها. وإلا فلا حرج في أن نستبدل به مبدأ آخر.
هاتان هما الوقفتان؛ وقفة العربي المتوارثة، ووقفة إنسان الغرب في هذا العصر. والرأي المقترح من هذا الكاتب إزاء هذا الاختلاف، مؤسس على أن موضوع الاختلاف الحقيقي بين الطرفين، هو أنه بينما يجعل العربي مبادئه ضمن اختصاص الحلقة الوسطى من البناء الهيكلي للسلوك - كما سبق أن عرضنا - نجد إنسان الغرب يضع مبادئه ضمن محتوى الحلقة الأولى؛ أي أن العربي يجعل مبادئه جزءا من ضميره، في حين يجعل إنسان الغرب مبادئه جزءا من مدركاته للمثيرات التي يتلقاها من محيطه. وإذا كان هذا هكذا فلنتناول بالفحص الدقيق تلك المبادئ التي وضعها العربي موضع تقديس، لموقعها من حياته الوجدانية، لعلنا واجدون أن ما يصدق على بعض تلك المبادئ لا يصدق على بعضها الآخر؛ فليس من شك أن فيها ما قد ورد أمرا أو نهيا في العقيدة الدينية، وفي هذه الحالة وجب أن تبقى حيث هي، جزءا من الضمير لا يقبل التغيير. لكن قد يكون هناك مبادئ أخرى، لم تكن وحيا من الوحي، بل أنشأتها الحياة العملية في عصر معين، وعندئذ يجوز لعصر آخر أن يزحزحها من موضعها في الحلقة الثانية؛ لتحال إلى متغيرات الحلقة الأولى. وأمثلة ذلك كثيرة في علاقاتنا الاجتماعية بين حكومة وأفراد، بين أفراد وظواهر الطبيعة، بين نظم التعليم، ونظم الحكم النيابي، ونظم الزراعة والصناعة والتجارة. ومن ذلك كله ننتهي إلى النتيجة الآتية، وهي أن الفجوة القائمة اليوم بين العربي وعصره، من الناحية الثقافية والحضارية، تضيق - بدرجة ملحوظة - إذا أخرجنا المبادئ التي لا علاقة لها بعقيدة دينية، والتي أثبتت التجارب بأنها عوامل ضعف وليست عوامل قوة إذا أخرجناها من دائرة الضمير الوجداني ومكوناته، لتصبح جزءا من متغيرات الإدراك، ليكون من حقنا أن نغير فيها ونبدل بغير حرج ولا تأنيب ، ما دامت قوة الحياة العملية تقتضي ذلك التغيير والتبديل. (2)
إذا كان مرادنا صيغة ثقافية للعربي الجديد، تجمع له هويته التاريخية التي ميزته عربيا ذا نمط فكري ووجداني وسلوكي معين، إلى قدرة تضاف إلى ذلك كله للمشاركة في عصره مشاركة إيجابية، يأخذ بها من عصره ويعطيه؛ بحيث يندمج التاريخي المأثور مع الحديث المكتسب دمجا عضويا لا تكلف فيه ولا تصنع. أقول: إنه إذا كان ذلك هو مرادنا في مجال الثقافة القومية، فربما أعاننا على سداد التفكير ووضوحه، أن نرسم لأنفسنا صورة عن العربي في هويته التاريخية أولا، ثم نعقب عليها بصورة أخرى نبرز فيها تلك العناصر الأساسية التي جعلت العصر الحاضر هو ما هو. وبعدئذ ننظر كيف نضع العربي التاريخي في عصره، فنرى ماذا يحذف منه وماذا يضاف.
ولقد عرضنا في أحاديثنا بشيء من التفصيل العناصر الأساسية التي أقامت للعربي التاريخي بنيته الثقافية على مدى تاريخه. وهي بنية شاركت فيها الرقعة الصحراوية كلها، من المحيط الأطلنطي إلى الخليج العربي. ولم يمنع هذه المشاركة الشاملة أن يكون الامتداد الصحراوي المذكور مخضرا بالزرع في الواحات ووديان الأنهار. اللهم إلا أن نجد في الوديان بصفة خاصة - وفي مقدمتها وادي النيل - مزيجا أخلاقيا مركبا من مؤثرات الحياة الزراعية المستقرة ومؤثرات الحياة البدوية المترحلة. ومن هذا التجانس - الغالب بين أبناء البيت الصحراوي العظيم - أرسي أول عماد من عمد الرؤية الثقافية في أرجاء هذا الامتداد المترامي. وكان ذلك العماد القوي المتين وليد الطبيعة الصحراوية من جهة، والوحي الديني عن طريق الرسل والأنبياء - حيثما ظهروا - من جهة أخرى؛ فبحكم الأثر الذي تخلفه الصحراء في نفس ساكنها، يغلب على هذا الساكن، وقد رآه محوطا بأبعاد من أرض وسماء يسودها ثبات نسبي في المعالم المادية - وفي حالات الجو. ومع الثبات النسبي فيما يشاهده ساكن الصحراء وما يحسه، جاء انطلاق البصر إلى ما ليس له نهاية إلا الآفاق تظهر بعدها آفاق، أينما توجه البصر؟ ومن هنا كان الأرجح أن تنطبع نفس الصحراوي بحالة تؤهله لتقبل اللانهائية في الوجود مكانا وزمانا، مقرونة بفكرة الديمومة الخالدة لذلك اللامتناهي، ثم جاءت ديانات اختلفت مصادرها على امتداد التاريخ، إلا أنها اتفقت جميعا في عنصر جوهري مهم، وهو الحياة الآخرة بعد هذه الحياة الدنيا، ثم أن تقام الموازين يوم الحساب، لينال الإنسان، ما هو خليق بما قد عمل في حياته بمقدار ما يرجح به ميزانه أو يخف.
ومن هذا الأساس الجوهري غرست في نفس الصحراوي - أينما كان موطنه من أطراف هذا الوعاء الصحراوي الواسع الأرجاء - طريقة للتفكير، تبدأ بطرح حقيقة مجردة عامة، ثم تجيء بعد ذلك استدلالات استنباطية تتولد منطقيا من تلك الحقيقة المبدئية المطروحة. وجدير بنا في هذا الموضع أن نستبق الإجابة عن سؤال قد يلقيه على نفسه سائل فيقول: ولكن أليس ابتداء العملية الفكرية مما هو مجرد وعام، نزولا إلى ما يتولد عنه من نتائج تستنبط منه هو أيضا ما تميز به الفكر اليوناني القديم، الذي شق للثقافة في الغرب طريقا غير طريقنا؟ والإجابة هي نعم ولا، أما نعم فهي لأن ذلك بالفعل ما قد غلب على الفكر اليوناني، وعلى أساسه أقيم المنطق الأرسطي لهم ولنا ولكل آناء الزمان. وأما «لا» فلأن ثمة فرقا بين أسلافنا واليونان في ذلك، وهو أن الحقيقة العامة المجردة التي يطرحها اليوناني يستدل منها، هي من عنده هو، لا يلوم غيره بها، وبذلك قد تختلف من مفكر إلى مفكر آخر، وبالتالي تختلف النتائج. وأما عند أسلافنا في أقطار البيت الصحراوي العظيم، وعلى تعاقب الحضارات، فقد كانت الحقيقة الأولية المطروحة في تجريدها وشمولها، مأخوذة - على الأغلب - عن عقيدة جاء بها وحي، أو فرضت على الناس لتكون موضع إيمانهم الديني، أو منقولة عن سلف أحاطهم القدم بشيء من التقديس لا يدع للمحدثين فرصة الشك في صوابه.
وكان ميلنا نحو الفكر المجرد، الثابت ثباتا نسبيا على مر الزمن، متفقا مع عقيدتنا الراسخة في حياة آخرة وفي يوم للحساب (والحديث هنا منصرف إلى المنطقة الشرق أوسطية، منذ الحضارة المصرية القديمة فآتيا مع عصور التاريخ)؛ ومن ثم أمكن لتلك الوجهة من النظر أن تكون هي أعمق الينابيع إيحاء للفنان، وللأديب وغيرهما من مبدعي الثقافة بشتى أشكالها؛ فالفنان أقرب إلى استلهام الحقيقة المجردة في دوامها ولامحدوديتها، منه إلى استلهام الحقائق الجزئية العابرة، يصدق هذا في التصوير وفي الشعر وفي صور الإبداع الأخرى، فإذا رسم المصور المصري القديم، اكتفى بالخطوط الإطارية للجسم الذي يصوره. وإذا رسم الفنان العربي فيما بعد، فهو قد تبلغ به نزعته نحو التجريد حد الأشكال الهندسية يؤلف منها زخارفه، والأشكال الهندسية هي غاية ما يصل إليه التجريد. ودقق النظر في الذوق العربي الأصيل في الإبداع الأدبي، تجد الجرس في نبرة اللفظ، والإيقاع في توازن النغمات، تصادف الإعجاب الفوري عند السامع، إعجابا قد لا ينتظر صاحبه ليرى إن كانت تلك الألفاظ المنغومة قد حملت معنى أم جاءت خاوية. وإذا كانت موسيقية اللفظ، مفردا ومركبا، هي أساسا وهدفا عند الأديب العربي، كان معنى ذلك أن مبدأ «التجريد» غالب عليه فكرا وفنا وأدبا.
وغلبة التجريد على الرؤية العربية، قد تتحقق في مواضعها الصحيحة، فتعلو درجة الإبداع، وقد يساء استخدامها فتهبط تلك الدرجة إلى ركاكة وخواء. وانظر إلى العربي حين يوفق في تكثيف خبرته بالحياة في أقوال حكمية قوية السبك، حسنة الإيقاع، سهلة الحفظ، عميقة المعنى، أو تكثيف خبرته في شعر محكم لا ترد فيه لفظة واحدة لغير هدف في البناء الشعري. ولعل هذه الرغبة الفطرية عند العربي في الإيجاز المكثف، الذي يسهل حمله في الذاكرة وهو يجوب الصحراء على ظهر بعيره، تكون مميزا عاما يميز اللغة العربية من حيث هي لغة بالقياس إلى اللغات الأخرى؛ إذ هي تعرف كيف تطوي مجموعات مفرداتها عناقيد عناقيد، تحت أصول «ثلاثية» (على الأغلب) لكل أصل ثلاثي منها أسرته اللفظية الكبيرة التي تنبثق من أرومته، كما تنتمي شجرة الأنساب الضخمة إلى جد واحد، أو كما تتبع القبيلة شيخها.
نحن - إذن - مع ثقافة العربي (مع توسع في معنى كلمة «عربي» ليشمل الرقعة الصحراوية من خليجها إلى محيطها، ويشمل الثقافات الشرق أوسطية من قديمها إلى حديثها، لما فيها من تجانس في الأصول ، برغم ما يتعرض له هذا التعميم الواسع لكثرة الاستثناء واحتمال الخطأ).
Неизвестная страница