Арабский между двумя культурами
عربي بين ثقافتين
Жанры
العصر كله متميز بموجة غمرته بالقلق، لا يقتصر فيه القلق على ذلك الحد الذي لا حياة لإنسان بدونه، بل جاوزه حتى أصبح علامة لا يخطئها بصر، وليس بأي منا حاجة إلى أن يقرأ عن قلق العصر في صحيفة أو كتاب، بل تكفيه حياته هو مرجعا كلما أصبح به صباح أو أمسى مساء؛ لأنه يحس في كل لحظة وكأنه مقبل على مجهول: ترى ماذا تخبئ له اللحظة الآتية، ويقرأ الصحيفة اليومية أو يستمع إلى مذياع أو تلفاز، ليعرف أخبار الدنيا، وإذا بمعظم أخبارها، في كل نشرة إخبارية يقرؤها أو يستمع إليها، قتل، وخطف، وتعذيب، وتدمير، وأغرب ما تراه في هذا كله، هو أن أفظع الجرائم تقترف محتمية بأشرف القيم، وأن الكثرة الغالبة من الضحايا هم الأبرياء، الكل في قلق تتمزق منه الأعصاب، وعلته في أغلب الظن هي أنه عصر جاء ليكون حلقة وصل بين حضارتين؛ حضارة منهما بلغت ختامها بحربين عالميتين، في أولاهما (1914-1918م) ارتجت الجدران، وفي ثانيتهما (1939-1945م) انهار البناء؛ فبعد أن كان الناس يحيون على قوانين وقواعد ونظم ثبتت ثباتا جعل كل فرد قادرا على أن يعرف في يومه كيف يكون غده، بحيث يعد له العدة وهو على ما يقرب من اليقين، بأن ما يتوقع حدوثه في غده سيراه محققا رؤية العين حين يحل موعده، لكن هذا الثبات كان يخفي وراءه ما يخفيه من ظلم الظالمين؛ فقد كاد العالم عندئذ ينقسم قسمين، أحدهما يمسك بالرقاب، يستغل الضعيف ويستذله، والآخر يختنق.
كان مسرح الأحداث في القرن الماضي يشهد النقيض؛ فهو عصر استعمار الأقوياء للضعفاء، ولكنه كان في الوقت نفسه عصر الأفكار الجديدة التي بذرت بذورها، لا لتنمو وتورق فور غرسها، بل لتنضج وتثمر بعد حين؛ فقد كان القرن الماضي هو العصر الذي تحولت في أوائله الرؤية، من سكونية يرونها في الكون، بمعنى أنه لا زيادة في الكون ولا نقصان، وكل ما في الأمر حركة تنقل ذرات المادة من هنا إلى هناك، ومن هناك إلى هنا بقانون محكم محسوب، حتى لقد غلبت الفكرة بأن اللحظة الحاضرة يمكن لصاحب العلم أن يستدل منها كل الماضي كيف كان، وكل ما هو آت كيف يكون، فتغيرت الرؤية من تلك السكونية إلى دينامية حركية يرونها في الكون؛ فهو كون ينمو ويمتد، ثم هو كون يبدع فيه جديد كل لحظة. وإذا رمزنا للرؤية السكونية السابقة، والنظرة الدينامية السكونية السابقة، والنظرة الدينامية اللاحقة، برمزين يوضحان الفرق بينهما، قلنا إن الأولى أشبه بآلة تضبط الوقت في دقة لا تخل، وليس فيها إلا قطع من مادة أحكم تركيبها، بحيث تؤدي ما تؤديه كما ينتظر لها أن تؤديه، فلا زيادة ولا نقصان ولا انحراف عن الطريق المرسوم. وأما الرؤية الثانية فيمكن الرمز لها بشجرة تنمو. إن عالم النبات بكل علمه لا يستطيع أن يتنبأ لها على وجه الدقة كيف تنمو: كم عدد الفروع وكم عدد الأوراق، وبأية صورة تتعرج الفروع، أو تستقيم، وبأية طريقة تتعرق كل ورقة بخطوطها؟ كان الكون في الرؤية الأولى مواتا إلا من أحياء هذا الكوكب الأرضي، فأصبح الكون حيا بما ينمو ويتسع، وبما يبدع فيه كل لحظة من جديد.
أحدثت هذه الرؤية الجديدة التي استهل بها القرن الماضي حياته، رجة في عالم الفكر كله، فتغيرت وجهات النظر، فأخذت فكرة «التطور» تسود وتتنوع، فتغير بها منهج النظر إلى الكائنات؛ فما دام التطور - وليس الثبات - هو الأساس، إذن فجوهر أي شيء هو تاريخه؛ فالتغير معناه أن يكون الكائن المعين - كل كائن وأي كائن - سيرة تمتد على فترة من الزمن. وإذا رصدنا مراحل تلك السيرة لحظة لحظة، كنا أمام ما يشبه الرواية؛ فالذي نراه من شجرة، أو من نهر، أو من عصفور، أو من إنسان، إنما هو إحدى لحظات وجوده، وهي لحظة تختلف عما سبقتها وعما سوف تسبقها.
وإذا كانت سنة الكون وكائناته حركة ونموا وسيرة، فهل يعقل أن يظل الشعب الحاكم حاكما والشعب المحكوم محكوما؟! إذن لا بد من ثورة أو ثورات تتفجر لتمحو الثبات الذي كان، ولتعمل على إيجاد ما يتغير به وجه الحياة، وكان لا بد لهذا التغير الجارف من حروب تدك الحصون القائمة، فكانت الحربان العالميتان الأولى والثانية، وما قام بينهما وبعدهما من ثورات إقليمية هنا وهناك.
وفي سنوات قلائل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1945م) أخذت الأقطار الواقعة تحت حكم الرجل الأبيض تستقل قطرا بعد قطر. وقامت هيئة الأمم المتحدة على زعم بأن متفرقا من الأمم قد اتحد، فلم تمض بعد ذلك إلا سنوات ثلاث، حتى أعلن ميثاق حقوق الإنسان، فأخذت التغيرات الكبرى في بنيان الحياة الإنسانية تتسع أبعادا وتعمق أغوارا؛ لأنها تغيرات سارت في خطوط أفقية تشمل كرة الأرض بأسرها، ولا يقتصر التغير الواحد منها على بلد بعينه يضرب بجذوره في أرضه حتى لا تنتقل عدواه إلى جيرانه؛ فهنالك التغير في مكانة «العامل» الذي استهدف أن تكون للعمال كلمة أعلى صوتا، وأجر أكثر، ورتبة اجتماعية أعلى، وامتدت الحركة لتوحد بين العامل والعامل عبر الحواجز القومية، إذ أصبحت القربى بين العاملين بسواعدهم وأيديهم أوثق آصرة من الصلة التي تربط العامل ومواطنيه في البلد الواحد. وهنالك التغير في عالم المرأة، وقد امتد هو الآخر في أبعاد أفقية جعلت للمرأة في جميع أنحاء العالم حركة واحدة؛ لأن حقوقها الضائعة تكاد تكون مشتركة، لا يختلف فيها بلد عن بلد إلا في القشور دون اللباب، واللباب هو أن تعد المرأة «إنسانا» له كل حقوق الإنسان التي أعلن ميثاقها في أواخر سنة 1948م؛ إذ ما جدواها إذا قيل لها - مثلا - إن لها مثل الرجل حقا في الحرية والمساواة، ثم لا تكاد تسمع عن هذه الحقوق عند عتبة الدار حتى تصطدم داخل الدار بمن يسلبها باليسار ما كانت أخذته باليمن منذ قليل؟! وذلك لأنها تنظر فإذا هي لم تزل مرهونة بكلمة مجنونة ينطق بها زوج في لحظة غاضبة، فتجد نفسها معلقة في الهواء. تغيرات أخرى كبيرة وواسعة شملت الطفل وحقوقه، والمسن وحقوقه، والمريض أو المعوق وحقوقه، وهكذا وهكذا.
وربما كان ما هو أعمق من تلك التغيرات جميعا، وهو التغير الجذري الذي تغيرت به وجهة النظر إلى «الثقافة» ومعاييرها؛ فبعد أن كانت وجهة النظر خلال القرن الماضي وأوائل هذا القرن - وأعني فترة الثبات التي أشرت إليها - هي أن للثقافة معيارا واحدا، وهو ثقافة الغرب، أو ثقافة الرجل الأبيض، بمعنى أن درجة التقدم أو التأخر في الحياة الثقافية للفرد الواحد، أو لشعب من الشعوب، تقاس بمقدار قربها أو بعدها من ثقافة الرجل الأبيض، ثم انقلب الميزان بعد استقلال الشعوب فيما أصبح «تقريبا» يسمى بالعالم الثالث؛ إذ أعقب ذلك الاستقلال السياسي نتيجة طبيعية، هي أن تستقل الثقافات بموازينها الإقليمية، دون الحاجة إلى ميزان الرجل الأبيض وثقافته؛ فلكل شعب حياته، وتاريخه، وعقائده، وتقاليده، ونظمه الاجتماعية، وماذا تكون ثقافته - إذن - إلا أن تكون تعبيرا عن هذا كله؟ ماذا يقول الشاعر إذا لم ينبض قلبه مع إيقاع الحياة التي يحياها هو وذووه؟ وعلى أي الصور تجيء شخصيات الرواية والمسرحية إذا لم تكن مستمدة من الخبرة الحية للأديب وهو في خضم الحياة الجارية مع بني أمته؟
هي إذن كما ترى، تغيرات واسعة وعميقة جاءت كلها إشعاعا من تلك الفكرة العظيمة الخصبة التي ولدت في أوائل القرن الماضي لتغير وجهة النظر إلى الكون وإلى الحياة من أساسها؛ فبعد أن كانت القاعدة المرجعية لما هو صواب في أي شيء، هي أصل ثابت يجري على سنن معلومة ومحسوبة، أصبح أساس الحكم شيئا آخر، هو مدى حيوية الاعتمال الداخلي الذي يضطرم في كيان الكائن المعين، أو الجماعة المعينة، فيغيرها بما تستطيع به أن تنمو وأن تبدع ما هو جديد، وأن تشكل بيئتها لصالحها، ولا تقف موقفا سلبيا تتلقى فيه المؤثرات الخارجية لتتولى تشكيلها.
لكن هذه التغيرات الكبرى لا تبلغ غاياتها بين يوم وليلة، إنها بمثابة خلق جديد لمجتمع جديد. ويزيد الأمر عسرا، أن الأمر ليس موكولا كله لرغبة الإنسان؛ فلا يكفي أن يقول الإنسان لنفسه: أريد كذا. فإذا الشيء المراد قد تحقق؛ لأن لكل رغبة أعداءها، فإذا كان العمال قد تحركوا واتحدوا عبر الحواجز القومية ، ليجعلوا للمهارات الحرفية والفنية مكانتها التي تستحقها، فهنالك أصحاب الأموال ومعهم أصحاب المهن كالأطباء والمهندسين ورجال القانون ورجال التعليم ومن جرى معهم هذا المجرى، يتمنون أن تظل لهم امتيازاتهم الاجتماعية القديمة. وإذا كانت المرأة قد أخذتها الصحوة أخيرا وبدأت تشعر بوجودها إنسانا كامل الحقوق، بالمعنى الصحيح الذي يتناول الجوهر، وليس بقشور شكلية ثانوية لا تنفع ولا تشفع، فهنالك الرجل الزوج الذي يحلم بأن يكون كسلفه سيدا وحوله الجواري، ثم إذا كانت الشعوب المحكومة قد استقلت، فهنالك حكامها الأقدمون تشتد قبضهم على سلطانهم القديم، ففعلوا ما فعله الذئب في حكايات الأطفال، قالت لهم أمهم قبل خروجها سعيا وراء القوت: لا تفتحوا باب الدار لأحد سواي. فجاء إليهم الذئب مرتديا ثيابا كثياب الأم وقرع الباب. وهكذا فعل الحكام الأقدمون للشعوب التي ظفرت باستقلالها. وكيف يتم لهم استقلال والعلم ليس علمهم، والصناعة ليست صناعتهم؟ فهم - إذن - ما يزالون أتباعا في صورة جديدة، ما ينالون من العلم وثمراته إلا ما يتصدق به عليهم حكامهم الأقدمون أنفسهم!
ولك أن تضيف إلى ذلك كله، أنه إذا كان المستعمر الخارجي قد حمل عصاه على كتفه ورحل، فقد حل محله - تقريبا - مستعمر داخلي يحمل القوة المغناطيسية التي تجذب كنوز البلد إلى خزائنه بقدرة قادر، ويبقى جمهور الشعب على حاله يعمل ليملأ خزائن آخرين، وكأن لسان حاله يقول لهؤلاء الآخرين من مواطنيهم - بعد أن كانوا من الغرباء - ما قاله شاعر عربي قديم: «إذا كنت مأكولا فكن أنت آكلي!»
هذه الارتجاجات كلها قد زعزعت هياكل الحياة الثابتة التي كانت، تمهيدا لوضع ثابت جديد يأتي، ولكنه لم يتكامل بناؤه بعد، فأدى ذلك إلى قلق في حياة الناس أصولا وفروعا، لا يكاد يتاح لأحد منهم أن يعلم في يقين أو ما يقرب من اليقين، ماذا يكون مصيره ومصير بيته غدا أو بعد غد؟ ولقد رأيت شبابنا قد انحرف عن جادة الطريق بصورة ملحوظة، بحيث أصبح كثيرون منهم - برغم شبابهم - ينبشون الماضي ليجدوا فيه ركنا آمنا يعتصمون به، وبحيث إذا وجدوا كتابا لكاتب قديم، وقدم إليهم كاتب من معاصريهم ومواطنيهم كتابا ينقض ما قاله المؤلف القديم، ففي حالة واحدة - ربما - من كل مائة حالة يتجه شبابنا بثقته إلى من يعاصره من مواطنيه؛ لأن القديم عنده أصدق رأيا، وأكثر إيمانا، وأشد إخلاصا، فكيف نتوقع لشباب وقف مثل هذه الوقفة الرافضة أن يهم ببناء حاضرنا، فضلا عن أن يمهد لمستقبل مأمول؟!
Неизвестная страница