Арабский между двумя культурами
عربي بين ثقافتين
Жанры
قالت المجيبة: وهل تظنين أن أمامي طريقا غير هذا الطريق؟ ومن أين يغرف الكاتب مادة حديثة إذا لم يغترفها من تجاربه؟
وهنا بدأت أكتب لأضع حقيقة أولى بين يدي القارئ. وهي أني رجل قسمت له حياة هادئة أهدأ ما تكون الحياة، قضى معظمها (أم أقول «كلها») في بحر من كلمات قارئا حينا، كاتبا حينا، وكان ذلك منذ خرج من برعم الطفولة. إنه لم يواجه صور الحياة في زحمة الطريق، بل التقط ما التقطه منها حين وقعت عيناه عليها (وكانت له عندئذ عينان) مرسومة في كلمات، فكان كلما وقع على شيء منها بدت له الكلمات كأنها مصابيح يفهم على ضوئها ألغازا، مما شهده بالفعل في مسالك الناس، وما يكون «العصر» الذي نتحدث عنه، إلا أناسا وما سلكوا؟ ومن السلوك ما يبني ومنه ما يهدم، أو يذهب في الهواء هباء مع الهباء.
وصورة الحياة خلال هذا القرن العشرين، هي - كما انطبع بها صاحب هذه الكلمات - حروب وثورات تملأ النصف الأول من القرن، فكأنها الفئوس تهوي على البنيان العتيق لتهدمه. يتلوه ربع القرن، جاء كأنه الصدى لتلك الحروب والثورات لأنه شغل نفسه بأن يهيل البنيان المتهاوي ركاما من الأنقاض، ثم بدأت بعد ذلك بشائر رفع الأنقاض لتخلو الأرض لبنيان جديد يقام على فكر جديد. والأمل هو أن يتحقق هذا الحلم إبان القرن الحادي والعشرين، فأما أولى هذه المراحل الثلاث فهي التي شهدت حربين عالميتين؛ الأولى فيما بين 1914م و1918م، ولم تقع أنباؤها على مسمع هذا الكاتب إلا كما تقع أواخر الصدى، صوتا خافتا محيت حروفه ومعالمه، ففقد المعنى. وأما الثانية فكان صاحبنا ينتقل مع العمر بين الشباب والرجولة، ومع ذلك فلم يدرك أبعادها ومغزاها كل الإدراك، مع أنه قضى شطرا منها في إنجلترا دارسا، فشهد شررها من بعيد فعرف لمحة من ضراوتها، وهي حرب امتدت ما بين 1939م و1945م. ومع الحربين العالميتين، وقعت في الفترة التي نتحدث عنها، ثورات وحروب إقليمية كانت بالنسبة إلى الحربين العالميتين بمثابة الهوامش التي تورد تفصيلات توضح ما قد ورد في المتون، وذلك إذا رأينا في تلكما الحربين ما يشير إلى انقلاب حضاري وشيك الوقوع، تتغير فيه أوضاع العالم تغيرا ينقله من قديم إلى جديد. ومن الثورات نذكر ثورة روسيا سنة 1917م، وثورة مصر سنة 1919م، ومعها ثورة الهند، ومن الحروب الإقليمية نذكر الحرب الأهلية في إسبانيا في الثلاثينيات بين اليمين واليسار. وكان من أهم معالم تلك الفترة «فاشية» موسوليني في إيطاليا، و«نازية» هتلر في ألمانيا؛ مرحلة صخبت بدوي المدافع في ساحات القتال وبهتافات الحناجر في شوارع المدن، وبملايين الضحايا سالت دماؤهم لتشهد على غفلة الإنسان وهو يمسك بالزمن حتى لا تتحرك خطاه، ولتشهد في الوقت نفسه على طموح الإنسان، وهو يدفع الزمن دفعا لينقل قدميه سائرا بالناس إلى أمام.
ولقد أراد الله لهذا الكاتب أن يكون رفيق كتاب متعلما ومعلما، وصاحب فكر حر ناقد يبحث في وقائع الدنيا عن «أفكارها» التي تخفيها وراء ظاهرها، وحامل قلم يرصد ما قد اختلجت به نفسه من رؤى، فرأيناه خلال ما وعاه من تلك الحروب والثورات، قد استخلص لنفسه شيئا من لبابها كما يراها. وكان من ذلك اللباب الذي استخلصه، والذي وجد مصداقه فيما يحياه هو في شخصه وفيما يكابده في تلك الحياة من شد وجذب، أقول إنه كان قد رأى في اللباب الذي استخلصه مما حوله، ومما يحس ويعي أن هذا العصر بحروبه وثوراته قد جاء إلى الناس بأضداد لم يستطيعوا حتى هذا اليوم أن يوفقوا بينها لتستقيم بهم حياة وتستقر.
وفي مقدمة هذه الأضداد ما تطلبه العصر من حرية للإنسان الفرد، وما تطلبه في الوقت نفسه من سيطرة الجماعة على كل فرد من أفرادها، ومن تكون هذه الجماعة؟ إنها في معظم الحالات تكون متمثلة في إرادة حاكمها وفي لسانه، فما يريده هو يصبح بقدرة قادر ما تريده الجماعة كلها، وما ينطق به لسانه هو يكون بمشيئة الله ناطقا بما تريد الجماعة أن تقوله لو كان لها لسان. لقد كان صاحب هذه الكلمات شابا في فترات الثورات والحروب، كان قارئا دءوبا للكتاب العرب ولبعض الأعلام من كتاب الغرب، فكان أعمق الأثر فيما تركه هذا كله في نفسه، هو أن الأولوية الأولى في القيم الإنسانية، إنما تكون لحرية الفرد فكرا ونشاطا، مع ما يراعى في هذه الحرية الفردية من عدم العدوان على حريات الآخرين. وكيف يخرج بنتيجة غير هذه النتيجة، ما دام قد قرأ متفهما مترويا، ما كتبه أحمد لطفي السيد، وطه حسين والعقاد وهيكل وسلامة موسى وغيرهم من أعلام ذلك الجيل؟ ثم كيف يخرج بنتيجة غير هذه عن حرية الفرد من الناس فكرا وفعلا، بعد أن قرأ شيئا كثيرا بما كتبته الطليعة الفكرية في إنجلترا بصفة خاصة ممن أطلقوا على أنفسهم منذ أوائل القرن اسم «جماعة بلومزبري»؟ إن كل كاتب من أولئك وهؤلاء كان يترك قارئه وقد ارتسمت في ذهنه صورة للإنسان الذي يحترم إنسانيته فردا قوي الاعتداد بفرديته؛ لأنه مسئول وحده أمام ضميره، ومسئول وحده أمام الله سبحانه وتعالى عما نطق به لسانه وما قدمته يداه. أيقول يومئذ إذا سئل عن ضلالة اقترفها: لقد خطب الزعيم في الجمهور فقال:
بالحق أو بالباطل خرج صاحبنا مما قرأه لأعلام عصرنا، هنا وهناك، بأن للفرد الإنسان حقوقه التي تنبع له من فطرته التي فطره خالقه عليها ولا تمنح له هبة من أحد، وعلى رأس القائمة في تلك الحقوق الفطرية حق «الحرية» على أن تفهم عند الناس فهما مستنيرا؛ فهي دائما قوة تبني ويستحيل على طبيعتها أن تكون عامل هدم، إلا أن تهدم العوائق التي تصادفها على الطريق. لكن العصر نفسه الذي نادت بشائره بحرية الإنسان فردا مسئولا، قد حمل في أعطافه رسالة أخرى، فحواها أن يتكتل جمهور الناس في الجماعة المعينة ليجعلوا الحياة مشاركة متساوية بين الجميع، عاليهم مع سافلهم عند السفوح، أو سافلهم مع عاليهم عند الذرى. وكما كان محالا - من الوجهة العملية - أن تتحقق هذه المشاركة المتساوية إلا إذا أمسك بالزمام زعيم قوي القبضة صارخ الصوت، فلتكن هذه سنة الحياة الإنسانية؛ ومن هنا تولدت نظم سياسية في كثير جدا من بلدان العالم الثالث، التي ظفرت بحرياتها السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، ونتيجة لها كفرت بحرية الفرد مستقلا عن قومه. إذن فلا مجال لأحزاب تصطرع في الرأي، ولا موضع لجهود فردية يسير بها أصحابها ليحققوا نجاحا لأنفسهم في دنيا الاقتصاد، إلى آخر ما نعرفه في هذا السبيل.
ولا يدري صاحب هذه الكلمات كم من الناس هم الذين أحسوا بالتضاد بين الدعوتين اللتين جاء بهما عصرنا؛ دعوته إلى حرية الإنسان، ودعوته إلى حياة المشاركة المتساوية بين الناس ومشاركة تمحو الفوارق التي قد تفضل منهم إنسانا على إنسان. لكنه - أعني هذا الكاتب - قد أحس ذلك التضاد في كل نفس شهقت به رئتاه أو زفرت، فلو أنه كان ممن يحيون لأنفسهم فكرا لجاز له أن ينطوي على أفكاره التي قد تتولد له عما يجب وما يجوز وما يمتنع فلا يحس بفكره أحد؛ ومن ثم فلا يلحظ حدة التضاد الذي أشرنا إليه فيما يخص حق «الحرية» كما جاء عصرنا مبشرا به، لكنه - أعني هذا الكاتب - قد وضع لسانه في سن قلمه منذ زمن بعيد، منذ أن كان في عشرينيات عمره الأولى، أحس به القراء أو لم يحسوا فذلك لا ينفي شيئا من صدق هذا القول، لكن الذي أحس بما يكتبه منذ ذلك الزمان البعيد هي إدارة الحكومة التي لم يكن ليعلم أين تسكن ولا من يمثلها.
ولم يكن قط هذا الكاتب ممن تعلقت نفوسهم بالسياسة، إلا كما يتأثر كل عابر سبيل من المواطنين، حتى نتوقع لإدارة الحكم أن تمد بصرها وسمعها لترى وتسمع ما يكتبه شاب هو من غمار الشباب - نعم، إنه لا يتواضع إذ يقول هذا القول عن موقعه من الناس يومئذ - وإنما كان كل اهتمامه معلقا بمستويات الفكر التي تتصل بمواقع الحياة اتصالا وثيقا، ولكنها في الوقت نفسه تعلو عن أرض هذه الحياة العملية بضع درجات لتصل إلى مبادئها ومراميها، وما هو إلا وقد أطبق عليه سدنة الحكم ذات يوم، والشاب لم يزل في باكورة حياته الفكرية ليجروه إلى تحقيق إداري طال فيه السؤال وطال الجواب:
س:
ماذا تعني بقولك كذا وكيت؟
Неизвестная страница