هناك، إذن، حركة توسع أمريكية في الشرق الأوسط. ولكنني أود أن أركز حديثي على منطقتنا، ومن هذه الزاوية أستطيع أن أقول إن آمال أمريكا في المنطقة قد انتعشت إلى أبعد حد في السنوات الأخيرة، إن لم يكن بسبب انتصاراتها الذاتية فعلى الأقل بسبب هزيمة القوى المناوئة لها.
ولكن الأهم من ذلك أن هناك مدا أمريكيا داخل عقولنا ونفوسنا: فالنموذج الأمريكي يفرض نفسه علينا بقوة متزايدة، والأسلوب الأمريكي في الحياة، الذي قد يرفضه الكثيرون في العلن، يقابل في السر بإعجاب متزايد، والقوة الأمريكية العسكرية والاقتصادية والإعلامية تبهر أعدادا متزايدة من العرب، بل إن أجهزة الإعلام في أكبر دولة عربية، وهي مصر، أصبح يسيطر عليها أشخاص لا هدف لهم سوى تجميل صورة أمريكا وعرضها بأزهى الألوان، ولن أكون مبالغا إذا قلت إن هذه الأجهزة قد نجحت بالفعل في إقناع الكثيرين بروعة هذه الصورة. ووصل هذا الاقتناع إلى حد الاقتناع السائد على أعلى المستويات بأن محاكاة النموذج الأمريكي يمكن أن يحل جميع مشكلات بلد كمصر ويدفعها بخطوات سريعة إلى الأمام ما دام هذا النموذج قد جعل من أمريكا ذاتها أعظم وأقوى دول العالم في مائتي سنة فقط.
لقد أصبحت «الوصفة» غاية في البساطة: أمريكا بنت نفسها في قرنين من الزمان، فأصبحت أعظم بلاد العالم. إذن فاتباعنا للنموذج الأمريكي سيجعلنا بدورنا عظماء متقدمين، وسينقلنا من الفقر إلى الغنى، ومن الضعف إلى القوة.
هذه هي العقيدة الجديدة التي لا توجد فقط في عقول بعض الزعماء، بل تتسرب بشتى الوسائل إلى عقول الناس العاديين. ولو تأملنا المحيطين بنا من الناس، لوجدنا نسبة كبيرة منهم تؤمن، داخليا على الأقل، بفاعلية هذه «الوصفة» وتقف مشدوهة أمام عظمة النموذج الأمريكي، وتتمنى في قرارة نفسها لو استطعنا أن نحاكيه في مجتمعاتنا.
هذا المد الأمريكي الزاحف، على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، وعلى المستوى الفردي في عقول الناس ونفوسهم، هو الذي أقنعني بضرورة الكتابة من أجل تحليل النموذج الأمريكي تحليلا موضوعيا، وإيضاح أبعاده للإنسان العربي حتى يتخذ موقفه من هذه المسألة الحيوية بوعي وتبصر، دون أن ينجرف في تيار الدعاية أو يغرق في خضم التضليلات. •••
وليعذرني القارئ إذا بدأت هذا التحليل بتقديم نفسي من الزاوية المطروحة في صفحات هذا الكتاب، أعني من حيث علاقتي الشخصية بأمريكا. فكاتب هذه السطور قضى في الولايات المتحدة خمس سنوات من أخصب فترات حياته، وفيها أنجب اثنين من أبنائه الثلاثة، وألف اثنين من أعز كتبه إليه. وفي أمريكا يعيش شقيق له مهاجر حصل على جنسيتها، وما زالت علاقاته الشخصية بكثير من الأصدقاء الأمريكيين تحمل كل سمات الود والوفاء. وليس في تاريخ كاتب هذه السطور أي انتماء إلى أية هيئة أو حزب معاد بطبيعته، وبحكم أيديولوجيته، لأمريكا.
هذا التقديم الشخصي بدا لي ضروريا حتى يدرك القارئ الروح التي أكتب بها هذا التحليل. ذلك لأن من السهل الاعتراض على شهادة من يحكم على أمريكا من منطلق عدائي، ومن يرفض أيديولوجيتها رفضا مبدئيا دون أن يعايشها أو ينغمس في دروب حياتها. لكني أردت أن أطمئن القارئ، منذ البداية، إلى أني لن أتخذ وجهة نظر معادية بلا تفاهم، وإلى أنني عرفت أمريكا عن قرب، ومن حقي أن أدلي عنها بشهادتي في هذه الأيام التي يطرح فيها النموذج الأمريكي نفسه علينا بقوة والحاح.
من طبيعة أمريكا أنها بلد يدعو إلى الانبهار. إنها بلد جمع في داخله أكبر كمية من «أفعل التفضيل»: فهي أقوى، وأغنى، وأحدث من كل بلاد العالم. كل شيء فيها أضخم، وأسبق، وأعظم مما تجده في أي بلد آخر. إنها البلد الذي وصلت فيه سيطرة الإنسان على الطبيعة، وتسخيرها لخدمته، وتأكيد سيادة العقل البشري على العالم المادي وقدرته على تشكيله وفقا لغاياته، إلى حد يفوق ما كان يحلم به الفلاسفة والأدباء وأصحاب «المدن الفاضلة» على مر التاريخ. هذه حقيقة لا يقدر على إنكارها من عالمنا المعاصر أحد.
ولكن القضية التي أود أن أدافع عنها، في هذه الدراسة هي:
أولا:
Неизвестная страница