لما كانت أخلاق العرب الاجتماعية هي علة وجود الامتيازات التي نحن بصددها، كان من الواجب أن نأتي عليها هنا دون غيرها لعلاقتها بالموضوع، ولأن بيانها يجلي جملة حقائق غامضة على الأفهام.
فطرت هذه الأمة من أيام نشأتها الأولى على حب الحرية المطلقة خلقا اكتسبته بعزة النفس لا يهون عليها ولو هلكت دونه، ويشهد تاريخها أنها لم تصبر على حكم ملك مستبد أو حاكم غشوم حتى أدى ذلك بكل عشيرة لأن تقوم بنفسها قرنا لغيرها، وإن كانت تنقاد لكبيرها فإنما كان ذلك انقياد ألفة وتعاون لا انقياد خضوع واستكانة، وما كان لهؤلاء الكبراء أن يسوسوا أبناء عشيرتهم بغير مبادئ الإخاء والمساواة حتى مع أنفسهم. ومما يشاهد فيهم إلى الآن أن الحاكم الذي يأخذهم بالرفق ولين الجانب يستخدمهم في صعاب الأمور، ويجد منهم إقبالا على أداء ما يكلفهم به، بخلاف الحاكم الجاف الطبع فإنه لا يظفر منهم بطائل.
تمسكوا بهذا الخلق في كل أدوار جاهليتهم، فلما أراد الله أن يذيقهم نعيم الحضارة أرسل لهم شريعة زادت بها حريتهم رسوخا. قضت هذه الشريعة بأن يكون أمر الأمة بيدها تعين رئيسها برأيها، ولم تجعله ملكا ينال بالإرث، فأخذوا بأسباب الحضارة، وارتقوا فيها عن كل أمة سبقتهم في التمدن، ولم يذوقوا مع هذه الحلاوة مر إذلال النفس. وما زال هذا شأنهم حتى صارت الخلافة ملكا لما اختلطت الأمة بغيرها من الأمم التي ألفت الخضوع للملوك، فتخلق سكان الحواضر بما يناسب مقامهم من أخلاق الانقياد للنظام الذي تقتضيه الحضارة، وبقي البدو على عهدهم ببساطة العيش تنسيهم لذة الحرية وتمتع النفس بعزتها كل مشقة في عيش البداوة، ويستغنون فيما تدعو إليه ضرورة الاجتماع من نظام المحاكمات بعادات بسيطة تقوم مقام النظامات المدنية المتعددة. فإذا اقترف جان إثما أو أخل متعهد بتعهده رفع المتظلم أمره لرجال ينصبون للقضاء، وينقطعون له، فتجرى المحاكمة بأبسط الطرق على نظام سهل يؤدي إلى نتائج صحيحة مؤسسة على دلائل ينقطع معها كل ريب، وفيما عدا ذلك من المسائل التي تهم المجموع يقررون أمورهم فيها على طريقة الشورى. ولما كانت القفار على سعتها وطيب هوائها ليس فيها من النبات ما يقوم بغذاء أنعامهم فضلا عن طعامهم، كانوا مضطرين لنزول السهول الخصبة لما يوجد فيها من وفرة الزرع حيث يأكلون ويرعون أنعامهم، فينزلون بكل أرض يجدون إليها طريقا فإن طاب لهم المقام فيها أقاموا وإلا ارتحلوا. وقد يقيم أحدهم في المكان الواحد عشرات السنين، ويعظم كسبه فيه من الزراعة فتخضع نفسه لنعيم الراحة، وتصعب عليه العودة إلى البداوة. وعلى هذا الناموس الطبيعي دخل كثير من العرب من تلقاء أنفسهم أو بدواع اضطرارية في عداد الأهالي الأصليين، ونسوا كونهم عربا، وجهلوا أصولهم. والقريب العهد بالدخول في هذا الدور، وهم الذين لم يمض عليهم أكثر من مائة سنة، لا يزال معروفا أصلهم العربي عندهم وعند غيرهم من الأهالي وإن كانوا قد أصبحوا وإياهم سواء في كل شيء من العادات والمعاملات.
وإن العرب ليقبلون على استيطان البلد الآمن الذي يغلب على حكومته سلطان العدل ما دامت لا تصادر عوائدهم، ولا تمتهن حقوقهم. والدليل على ذلك حالهم في مصر؛ فإن عددهم في سنة 1897 قد ظهرت فيه زيادة عن عددهم في سنة 1882 تساوي ضعفه مرة ونصفا تقريبا، وهي نسبة لم توجد قط بين تعداد وسابقه، ولم تحصل هذه الزيادة الخارقة إلا في المدة التي اشتد فيها ساعد القانون، وعظم احترام الحكومة له وشغفها بإجراء العدل بين الرعية. وليست هذه الزيادة مما تصح نسبته للتناسل، بل قدرها ونقص عدد الرحل وزيادة المقيمين بعزبهم والمقيمين مع الأهالي يدل على أن الرحل الذين أحصاهم التعداد السابق قد استوطنوا وجاء غيرهم واستوطن. وها هو بيان تقابلي من الإحصاءين:
سنة 1882
سنة 1897
عدد
عدد
21313
240880
Неизвестная страница