هذا فيما يختص بالماديات، أي بمعاني الدرجة الأولى من درجات التجريد. فإذا ارتقينا إلى ما فوقها قلنا بدون تحفظ ولا استدراك: إن العقل يدرك الماهيات. فمعاني الدرجة الثانية التي هي موضوعات الرياضيات معقولات صرفة من غير شك؛ فإنها بريئة عن المادة المحسوسة التي تحجب الماهية كما بينا، وهي لا تشتمل إلا على المادة المعقولة التي هي السطح والخط مجردين عن كل كيفية حسية، فيستوعب العقل خصائصها، ويبرهن على هذه الخصائص بخاصية رئيسة مأخوذة من المعاني أنفسها، أي من الماهيات الممثلة في المعاني. وما الأشكال المتخيلة ههنا بإزاء المعاني سوى صورة جزئية ليست هي المقصودة بالحد والبرهان.
ومعاني الدرجة الثالثة المجردة عن كل مادة محسوسة أو معقولة، كمعاني ما بعد الطبيعة والنفس والأخلاق والمنطق، شاهد أبلغ على إدراك العقل للماهيات؛ فإنها تتأبى على كل تخيل كما هو واضح، ومنها ما يطلع على أشياء متباينة الماهية بحيث لا يبقى أي وجه لدعوى الحسيين أن معانينا عناصر محسوسة مشتركة ينضم بعضها إلى بعض بالتشابه: ما هي العناصر المحسوسة المشتركة بين تمثال وقصيدة وقطعة موسيقية وزهرة، وغيرها كثير، حين نصفها بالجمال؟ فإن قيل إن هذا الوصف غير مستفاد منها بل من أثرها فينا، أجبنا أننا نشعر تمام الشعور أن الوصف متجه إليها، وندرك بجلاء أنه إذا لم يكن لها صفة الجمال لم يكن لها أي أثر. ثم ما هي العناصر المحسوسة المشتركة بين الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة والسخاء، وغيرها من الفضائل حين نجمعها تحت معنى الفضيلة؟ فإن سئلنا بأي حق نجمعها هكذا، أجبنا أن هناك تشابها، ولكنه تشابه معقول غير محسوس يبدو في التعريفات التي نؤلفها لهذه المعاني بأجناس وفصول معنوية، كما سنبينه كلما صادفنا معنى من تلك المعاني العامة الشاملة التي هي أصول المعرفة الإنسانية.
الخلاف إذن بيننا وبين الحسيين قائم في أنهم يأبون الاعتراف بالمعقول، ويجهدون أنفسهم في رده إلى المحسوس. ويظهر هذا الخلط في نقدهم للمعنى المجرد؛ إذ يقولون إنهم لا يستطيعون أن يتصوروه لأنه غير معين، وهم يقصدون أنهم لا يستطيعون أن يتخيلوه، ونحن نقرهم على أنه لا يتخيل من حيث إن المخيلة قوة حسية عاجزة بطبعها عن تمثيل ما ليس بمحسوس. أما إن أريد بالتصور التعقل فهو مستطاع؛ إذ إن المعنى المجرد غير المعين من جهة الأعراض المحسوسة، معين تمام التعيين بعناصره المعقولة التي تدخل في تعريفه. وإذا عد تصورا ناقصا لكونه لا يحتوي إلا على تلك العناصر، فإنه تصور تام ما دامت هي المقومة للماهية. فالتعريف الصحيح للتجريد ليس قولهم إنه انتزاع صورة جزئية من صورة جزئية أعقد، مثلما تفعل الحواس الظاهرة التي يدرك كل منها كيفية معينة من كيفيات الشيء الواحد، فإن الصورة الجزئية لا تفسر المعنى على أي وجه أخذناها، والانتباه الذي يجعلون منه وسيلة التجريد لا يعطي الصورة الواقع عليها أي قسط من التجرد، بل بالعكس يقوي جزئيتها: كانتباه البصر إلى لون شيء ما، فإنه يفسر انفصال اللون عن الشيء، ولكنه يدعه هذا اللون المعين في هذا الشيء المعين.
وإنما التعريف الصحيح للتجريد هو الذي يذكره ابن سينا نقلا عن المدرسة الأرسطوطالية، حيث يقول: «إنه انتزاع الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعن علائق المادة ولواحقها.» أو بكلمة واحدة: التجريد إحالة المحسوس معقولا. إننا نخطئ بلا مراء إذا تصورنا اللون أو الحركة أو الماهيات الجسمية مفارقة للأجسام لكونها مجردة عنها في تصورنا، أما إذا لاحظنا الحركة مثلا فيما يخصها بالذات، وهو أنها الانتقال التدريجي من مكان إلى آخر، بصرف النظر عن الموضوع المتحرك، وعن أعراض الحركة من اتجاه وسرعة وبطء، فليس في هذا التجريد كذب؛ لأن الموضوع المتحرك ومشخصاته لا تدخل في حقيقة الحركة ، وليس فيه امتناع، وإنما هو عام عادي كما يشهد الوجدان وتشهد العلوم التي إنما مدارها على أمثال هذه المجردات. ومن عجب أن يغفل الحسيون شهادة الوجدان وشهادة العلوم تشبثا بمبدئهم. (4) المعنى واللفظ
بل إن مبدأهم قد ساقهم إلى أشهد من هذا خلفا وأدعى للعجب؛ ذلك أنهم لم يؤمنوا بالمعاني وآمنوا بالألفاظ. فقد مر بنا تفسيرهم للكلية أنها استعراض صورة جزئية عند سماع الأسماء الموضوعة لها أو قراءتها. ولما جزموا بأن المعاني ألفاظ وحسب، انتهوا إلى أن مدار العلوم على ألفاظ. فإنكارهم للعقل قضى عليهم بإنكار قيمة العلم.
أجل إن اللفظ أو الاسم غير متعلق بصورة جزئية معينة؛ هذا قول صادق، وأصدق منه وأصرح أن نقول: إن الاسم كلي حين يتصور الذهن الكلية، وأنه يصير جزئيا بالإشارة إلى عين من الأعيان، كأن نقول: هذا الإنسان وهذه الشجرة. ويعود كليا حين نستعمله بصيغة الجمع فنقول: الناس والأشجار. أو بصيغة مهملة مثل: إنسان ما وشجرة ما. فما هو السبب في إمكان وضع الاسم مستقلا هكذا عن الصور الجزئية، وجميع إدراكاتنا واقعة على جزئيات فيما يقولون؟ أليس هذا دليلا قاطعا على أن المعنى والكلية سابقان على الاسم، وأنهما السبب في وضع الاسم، وأن لا قيمة للاسم إلا إذا قرن به المعنى وأدركت الكلية؟ ليس التفكير لوك ألفاظ، ولكنه إدراك الأشياء المدلول عليها بالألفاظ. ونحسب أن كل هذا من البداهة بحيث لا يحتاج إلى إلحاح.
يلزم من ذلك أن العلوم تدور على أشياء لا على ألفاظ كما يدعون. وقد اعتقد باركلي أنه يؤيد المذهب الحسي في هذه الدعوى باستشهاده بالحساب والجبر كعلمين اسميين يدوران على علامات عرفية لا على أشياء، ولكنه كان واهما، فقد نسلم جدلا باسمية هذين العلمين، فتبقى لدينا موضوعات سائر العلوم وهي تمثل أشياء واقعية، فهي تتطلب تفسيرا آخر غير الاسمية. ولكننا لا نسلم بما يقول؛ فإن لكل من الحروف المستخدمة في الجبر، ولكل من الأعداد المستخدمة في الحساب، دلالة خاصة تجعل المدلول في حكم الشيء الواقعي، فيرجع العلمان إلى حكم سائر العلوم: ففي الجبر تدل الحروف دلالة مطردة على كميات معلومة أو مجهولة، وفي الحساب تدل الأعداد على كميات معينة، وتعتبر بمثابة الأنواع الواقعية، فيختلف بزيادة وحدة أو إنقاص وحدة، كما يختلف «الحي» بزيادة «الحاس» أو حذفه، وكما يختلف «الحيوان» بإضافة «الناطق» أو حذفه على ما هو ظاهر في شجرة فورفوريوس. ولما كان العد أو الحسبان في العلمين منهجا مستقلا عن المعدودات منطبقا على أي منها، فإن العقل يصرف النظر عن المعدودات، أي عن الموضوعات المدلول عليها بالعلامات، ريثما يجدها عند التطبيق. وعلى هذا الاعتبار يستخدم الرياضيون الأعداد والحروف ويؤلفونها بعضها مع بعض في كل علم. أما إذا كانت عاطلة عن كل دلالة فكيف نفسر العد والتأليف والتطبيق؟
الإدراك العقلي سابق إذن على اللفظ مستقل عنه، ويتضح هذا الاستقلال أيضا بالمقارنة بين طوائف الألفاظ وبين الإدراك المقابل لها في العقل: فمنها الألفاظ المشككة، تلك التي تقال على كثيرين مختلفين بالماهية، فتنطبق باتفاق من جهة وافتراق من جهة أخرى، مثل قولنا: «منظر جميل، وتمثال جميل، وقصيدة جميلة، وغناء جميل»، أو قولنا: «إنسان طيب، وفاكهة طيبة، وقلم طيب»، فإن لفظي «الجمال والطيبة» ينطبقان على الموصوفات بمعنى عام، هو وجه الاتفاق الذي يذكر في تعريفها حيث نقول: إن الجمال تناسق ورونق، وإن الطيبة موافقة الشيء لماهيته أو للغاية المنشودة منه. ولكن العقل يعلم أن الجمال أو الطيبة لا يتحققان في الموصوفات على نحو واحد من حيث إن لكل منها ماهية خاصة، فليس جمال التمثال كجمال القصيدة، وليست طيبة القلم كطيبة الإنسان أو كطيبة الفاكهة. وبهذا العلم يدخل العقل في إدراكه لكل موصوف معنى ليس في اللفظ ولا يمكن أن يكون في اللفظ لتعدد الموصوفات واختلافها.
وثمة شاهد آخر على هذا التمايز بين المعنى واللفظ، هو أن لفظا موضوعا لمعنى معين بالمطابقة يوحي أيضا بمعنى متضمن فيه أو لازم عنه، مثل دلالة كل من لفظ البيت ولفظ السقف على الحائط. وليست هذه الدلالة راجعة إلى اللفظ، بل إلى العقل الذي يدرك أن ما يدل على الكل يدل على الجزء بطريق التضمن، أو أن ما يدل على جزء ما فهو يدل على جزء آخر متصل به، فيصرف العقل اللفظ الموضوع للأول بالمطابقة إلى الدلالة على الآخر بطريق الالتزام أو الاستتباع.
وشاهد ثالث يؤخذ من المترادفات؛ فإنها أسماء مختلفة متواردة على مسمى واحد، وذلك لأن الألفاظ عرفية وضعية لا دلالة لها بذاتها وأن العبرة بفهم العقل.
Неизвестная страница