أما كنط الذي حرص على التوسط بين الحسيين والعقليين، فلم يوفق إلا إلى توسط ظاهري فقط، هو نتيجة جمع صناعي بين عناصر متناقضة، وما إن ينكشف تناقضها حتى ينقسم المذهب على نفسه ويتبدد شذر مذر. ونحن ندل على سبعة تناقضات: التناقض الأول قائم بين اعتقاده بالضرورة في الحكم العلمي وبين بقائه على التصورية؛ فإن الحكم إذا دققنا فيه النظر، يفضي إلى الوجود، وذلك بأنه متجه إلى موضوع حاكم عليه في ذاته، موجودا كان أو ممكن الوجود، فيقول إن الموضوع «هو» المحمول، فإن الرابطة «هو» تؤكد الموضوع وتؤكد حصول المحمول له في واقع الأمر.
التناقض الثاني بين الكلية والضرورة الباديتين في الحكم العلمي، وبين تأليف هذا الحكم من حدين مستفادين من التجربة الجزئية الحادثة: فما يجيء من التجربة ليس بين حديه نسبة ضرورية، فكيف يسوغ إيقاع مثل هذه النسبة بين حدين بريئين منها؟ إن الحكم العلمي شيء غير مفهوم في فلسفة كنط، ولا يفهم إلا بنظرية أرسطو في التجريد التي ترفع الشخص والحدوث عن الموضوع والمحمول، وإلا بقي الحكم العلمي بغير تفسير لا من جهة التجريد ولا من جهة العقل.
التناقض الثالث بين تصورية المقولات وموضوعيتها: فهي قوالب جوفاء لا يجوز أن تؤخذ موضوعات معرفة، وهي في نفس الوقت كثيرة متباينة الآحاد يحمل كل منها اسما: أفليس يلزم عن هذا أن لها تعريفات وأنها من ثمة معلومة ولو إلى حد ما؟ إن كنط يجادل في مقولة العلية وفي غيرها من المقولات، وهو يقول: إننا نتصور المكان والزمان ولو لم يشتملا على شيء. فكيف تكون المقولات، وكيف يكون المكان والزمان صورة ومادة في آن واحد؟ لقد احتاج كنط إلى الصور العقلية لكي يوفر للعلم أساسا من الكلية والضرورة، ذلك الأساس الممتنع على المذهب الحسي لإنكاره العقل، فلم يزد بها على مدركات التجربة سوى مجموعة من الألفاظ لا يمكن أن تحيل الحكم التجريبي حكما علميا.
التناقض الرابع بين اعتباره العلية مجرد مقولة لا يجوز تطبيقها إلا للربط بين ظاهرتين محسوستين؛ كما هو شأن سائر المقولات، وبين استخدامه إياها كما لو كان لها قيمة وجودية، وذلك في مواضع كثيرة جدا، أهمها اثنان: أحدهما وجوب المكان والزمان والمقولات لتعليل الكلية والضرورة في المعرفة الإنسانية كما تقدم، والآخر وجوب الأشياء لتعليل انفعالية الإحساسات، وفي الحالين لا وجوب إلا لعلة موضوعية.
التناقض الخامس بين إثبات وجود الأشياء وبين امتناع معرفتها، فإنه يقول: إننا لا نعرف سوى الظواهر، أي انفعالاتنا بالأشياء، فأية فائدة تعود إذن من الأشياء إذا كان تأثيرها لا يدل عليها؟ وما الظاهرة إن لم تكن «ظهور» الشيء؟ وبينما يقول إن الأشياء غير مدركة أصلا، نراه يحلل طبيعة العقل، ويزعم أنه يعرفه تمام المعرفة، وأن هذه المعرفة هي التي تنتج له أننا لا نستطيع معرفة الأشياء. فإن قال إنه يصل إلى معرفة طبيعة العقل بتحليل أفعال العقل، قلنا: وإذن فنحن نستطيع أن نعرف أي شيء بتحليل ما ننفعل به عنه من صفات وأفعال.
التناقض السادس بين مفهومات المقولات ومفهومات الرسوم الخيالية المقول إنها دالة عليها: ذلك بأن كنط يعين البقاء في الزمان علامة على الجوهر، في حين أن البقاء في الزمان قد يتفق للعرض أيضا، وقد لا يتفق للجوهر إذا لم يدم الجوهر سوى لحظة. وترتفع الحاجة على علامة بتعريف الجوهر بأنه الماهية المتقومة بذاتها، وتعريف العرض بأنه الماهية المتقومة بالجوهر. ويعين كنط التعاقب المطرد علامة على العلية، في حين أن التعاقب المدرك لا يدل دائما على العلية، بل قد يكون محض تعاقب. ويعين تقارن أعراض جوهرية علامة على التفاعل، في حين أن تقارن الأعراض لا يلزم حتما عن التفاعل، بل قد تكون أعراض كل جوهر لازمة عن هذا الجوهر نفسه. ويعرف الإمكان بأنه الوجود في زمان ما، والضرورة بأنها الوجود في كل زمان، على حين أن الممكن قد يكون أزليا أبديا، كالعالم في افتراض قدمه وعدم فنائه، مع افتقاره إلى موجود باعتباره ممكنا في ذاته، ومن ثمة في كل آن. فما دام الإمكان هو الوجود في زمان ما، فمن الممكن أن يتكرر هذا الوجود إلى غير نهاية ولا يقصر على قسم من الزمان. أما إذا عرفنا الممكن بأنه ما وجوده مفتقر إلى غيره، وعرفنا الضروري بأنه الموجود بذاته؛ ارتفع كل لبس، وبان السبب في دوام الضروري في كل زمان. وعلى ذلك فليس يوجد عند كنط تفسير لتطبيق المقولات على ظواهر التجربة.
التناقض السابع بين الإقرار بالعلم وإنكار الماهيات الطبيعية. وهذه مسألة الاستقراء في فلسفة كنط: فإن الأشياء مطردة الأفعال، حتى إننا نتوقع منها أفعالا معينة استنادا على قانون طبيعي، فتقع هذه الأفعال. فما السبب في عودة الظواهر طبقا للقانون، وكيف نستطيع الجزم بأن الظواهر تطرد بالنظام المعهود، وأن المستقبل يجيء على غرار الماضي والحاضر، وفلسفة كنط ترفض الماهيات وثباتها؟ إن اعتقدنا بضرورة القوانين سلمنا بالمطابقة بين العقل والوجود، وإن لم نعتقد بتلك الضرورة لم يبق لدينا ضمان للعلم. فجملة القول في النظريات التصورية أنها تخفق في إقامة الصلة بين الحس والعقل من جهة والطبيعة من جهة أخرى.
الفصل الرابع
العقل وما بعد الطبيعة
(1) تعريف ما بعد الطبيعة
Неизвестная страница