أما الشكل الرابع فما هو إلا الشكل الأول في هيئة مقلوبة من جراء نقل المقدمتين إحداهما إلى مكان الأخرى، وهذا لا يزيد نسبة جديدة بين الحدود. إن كل شكل إنما يتعين بنسبة الأوسط إلى الطرفين، فسواء جاء الأوسط موضوعا فمحمولا كما هو الشأن في الشكل الأول، أم جاء محمولا فموضوعا كما هو الشأن في هذا الشكل الرابع، فالحال واحد ما دام يجيء موضوعا تارة ومحمولا تارة أخرى. ثم إن قلب المقدمتين يخرج نتيجة مقلوبة كذلك، غير مألوفة، بعيدة عن طبع العقل، من حيث إنها تضيف الحد الأصغر للأكبر، على حين أن الترتيب الطبيعي إضافة الأكبر للأصغر، فيقال: «سقراط إنسان، سقراط مائت، الإنسان حساس، لا واحد من الإنسان بنبات»، ولا يقال : «بعض الإنسان سقراط، بعض المائت سقراط، بعض الحساس إنسان، لا واحد من النبات بإنسان»؛ إذ إن الأصل في الإضافة أن يضاف الجنس إلى النوع، ويضاف النوع والجنس إلى الشخص. فهذا الشكل الرابع لا يعد شكلا إلا من الوجهة الصورية البحتة، أو من الوجهة النحوية، لا من وجهة المنطق وحقيقة التفكير، فإن موضوع النتيجة فيه (أو المبتدأ النحوي) هو عند العقل محمول، ومحمولها (أو الخبر النحوي) هو عند العقل موضوع.
من هذا البيان الوجيز نرى أن القياس إطلاق مضاهاة حدين بثالث، وأن الشكل الأول أظهر صورة لهذه المضاهاة من حيث إنه يعتمد على انطواء الحدود بعضها في بعض، وأنه أقوى صورة لها من حيث إنه يبين ما للإنتاج أو اللزوم من سبب وجودي أي في واقع الأمر، وسبب منطقي أي في علمنا من حيث إن العلم ههنا هو العلم بالعلة، فهو الشكل البرهاني بمعنى الكلمة. والشكل الثاني أدنى منه، لا ينطبق فيه مبدأ المقول على الكلي إلا بشيء من التعيين والتضييق، فليس أرسطو وسطا حقا، فما هو موضوع حد ومحمول الآخر، ولكنه محمول مرتين، فهو أوسع ماصدقا من الحدين، فإن سمي وسطا فبمعنى أنه واسطة المضاهاة، ولذا كانت نتيجته أقل ظهورا. والشكل الثالث أدنى من الثاني، فإن أسماء الحدود لا تتحقق فيه هو أيضا؛ إذ إن أوسطه هو الحد الأضيق ماصدقا لمجيئه موضوعا مرتين في المقدمتين، ونتيجته جزئية ولا ينتج كلية أصلا. ومع هذا فالشكلان الثاني والثالث قياسيان صحيحان سليمان، تتضح صحتهما وسلامتهما للعيان بردهما إلى الأول على ما هو مبسوط في كتب المنطق، دون أن يكون هذا الرد ممنوعا ما دام لكل شكل مبدؤه وغايته، حتى لا يمكن في الحقيقة أن يحل واحد منها محل الآخر بالنسبة إلى الغاية المطلوبة. والشكل الرابع تقضي طبيعته برده إلى الأول بنقل مقدمتيه، فتجيء نتائجه مستقيمة؛ أو بإلحاقه بالأول كهيئة له غير مستقيمة أي مقلوبة. والواقع أن أرسطو لم يذكره، بل اعتبر قسمة القياس إلى ثلاثة أشكال قسمة حاصرة؛ كذلك أبى مناطقة العصر الوسيط أن يعدوه شكلا قياسيا، ويقال إن الطبيب الفيلسوف جالينوس (المتوفى في نهاية القرن الثاني للميلاد) هو الذي جعل منه شكلا خاصا. وعلى كل حال فقد بدا كذلك في عصر النهضة لدى المناطقة الاسميين، والاسميون قوم يقفون عند الظاهر ولا يحاولون النفوذ إلى حقائق الأشياء، فاقتصروا على اعتبار مكان الحد الأوسط من الحدين الآخرين، ولم يفطنوا إلى أن هذا المكان علامة ظاهرة فقط، وأن الأشكال القياسية أشكال للتفكير أولا.
وكلية الحد الأوسط شرط ضروري يستحيل بدونه تركيب القياس. وهذا ما تقوله القاعدة التي تحذر من إيراد الأوسط جزئيا في المقدمتين، وتحتم أن يجيء كليا في إحداهما على الأقل. وذلك لأن الحد الجزئي يمثل جزءا غير معين من جنس ما، فقد يوافق أحد الطرفين في جزء من أجزائه، ويوافق الطرف الآخر في جزء آخر، فيكون الطرفان مضاهيين بحدين مختلفين لا بحد واحد بعينه، ويكون القياس مؤلفا من أربعة حدود، فلا يكن استنتاج شيء مثلما إذا قلنا: «السنديان شجرة (ما)، والجميز شجرة (ما)»، أو قلنا: «النبات حي (نام)، والحيوان حي (حساس)» فلا نستنتج أن الجميز سنديان ولا أن الحيوان نبات. ولا يمكن الاستنتاج سلبا؛ إذ قد يتفق الجزءان في بعض الحالات، لكن يمكن الاستنتاج إذا كان الأوسط كليا في إحدى المقدمتين، فما دمنا نثبت شيئا للأوسط كله فلنا أن نثبته بعد ذلك لجزء من أجزائه. ومعنى هذه القاعدة أنه لا يمكن الاستدلال بالأقل على الأكثر، أو استنتاج الأكثر من الأقل. وهذا أيضا مبدأ القاعدة القائلة إن النتيجة تتبع أضعف المقدمتين، فالحسيون إذ ينكرون المعنى المجرد الكلي يعطلون التفكير بتاتا.
وكما قد أثار بعض المناطقة المحدثين إشكالا بصدد الحكم الإضافي، فقد أثار بعضهم إشكالا بصدد القياس الإضافي. قالوا: إن الاستدلال في الأقيسة المركبة من قضايا إضافية يختلف بالمرة عنه في الأقيسة الحملية المعبرة عن حصول محمول لموضوع، فلا يخضع لقواعد القياس، ومنها قاعدة الحدود الثلاثة، ولكن له صوره وقواعده الخاصة. مثال ذلك: «فرساي أصغر من باريس، وفونتنبلو أصغر من فرساي. إذن فونتنبلو أصغر من باريس.» فإذا قلنا: إن الحد الأكبر هو محمول الكبرى «أصغر من باريس»، وأن الحد الأصغر هو موضوع الصغرى «فونتنبلو»، فماذا يكون الحد الأوسط؟ لا يكون «فرساي» الذي هو موضوع الكبرى ولكنه في الصغرى جزء فقط من المحمول، ولا يكون «أصغر من فرساي» الذي هو محمول الصغرى والذي جزء منه فقط موضوع الكبرى. وإذن فلا يكون هناك حد أوسط مع كون الاستدلال صحيحا مشروعا.
والجواب أنه كما أن لكل شكل من أشكال القياس الحملي مبدأ يهيمن على الاستدلال فيه ولا يدخل في صلب القياس، فكذلك الأقيسة الإضافية مبدأ يهيمن على الاستدلال فيها ولا يظهر في منطوقها، مثل قولنا: «ما يتضمن شيئا فهو يتضمن ما يتضمن هذا الشيء» أو «الأعلى من شيء هو أعلى من الأدنى من ذلك الشيء»، فإذا راعينا المعنى أدركنا أن «أصغر من» ليس صفة للطرفين كالمحمول في القضايا الحملية، ولكنه «نسبة» بين الطرفين، فينتج لنا أن القياس الإضافي مركب هو أيضا من ثلاثة حدود مترابطة فيما بينها برابطة خاصة هي «نسبة». إن الحد الأوسط «فرساي» يفيد في إثبات نسبة مقدارية بين فونتنبلو وباريس. فالأقيسة الإضافية منتظمة على منطق القياس الحملي وخاضعة لقواعد المنطق الأرسطاطالي، ولا ضرورة لتأليف منطق جديد لأجلها. وهذا ما أشار إليه ابن سينا
1
بقوله: «قياس المساواة: إنه ربما عرف من أحكام المقدمات أشياء تسقط، ويبنى القياس على صورة مخالفة للقياس، مثل قولهم: («ج» مساو ل «ب»، و«ب» مساو ل «ل»، ف «ج» مساو ل «ل»)، فقد أسقط منه أن (مساوي المساوي مساو)، وعدل بالقياس عن وجهه من وجوب الشركة في جميع الأوسط إلى وقوع الشركة في بعضه»، فما أعظم ما يفيد المتأخرون من دراسة المتقدمين! (3) المذهب الحسي والقياس
هذا العرض للقياس كاف وحده لتسويغه، ولكن المذهب الحسي يقضي على رجاله بإنكاره لابتنائه على المعنى المجرد الكلي وشهادته بوجود العقل. وبالفعل منذ العصر القديم أخذ السفسطائيون والشكاك يتندرون عليه وينظمون المغالطات للهزء منه، وقد تناقلوا حجة ظنوا أنها تهدمه من أساسه، قالوا: ليكن هذا القياس : «كل الناس مائتون، وسقراط إنسان، إذن سقراط مائت.» فالمقدمة الكبرى الكلية لا تصدق إلا إذا كانت النتيجة معلومة من قبل، أي لا يقولها القائل إلا لعلمه أن سقراط مائت، فلا تعود هناك حاجة لتركيب قياس؛ أما إذا لم يعلم فلا يسوغ له قولها، ولا يعود هناك إمكان لتركيب قياس. وإذا مضى فقال: «إذن سقراط مائت»، ارتكب مصادرة على المطلوب؛ فإن المطلوب معرفة ما إذا كان سقراط مائتا، ومعرفة أن «مائت» متضمنة في المقدمة الكبرى. وقد اصطنع هذه الحجة الحسيون المحدثون واشتهر بها جون ستوارت مل، وصارت تذكر عنه كأنها من ابتكاره. وهم يفسرون الاستدلال عموما بأنه انتقال من محسوس إلى محسوس، وأنه من ثمة يرجع إلى تداعي الصور بالتشابه. ونحن نكشف عن تهافت حجتهم، ثم نبين بطلان تفسيرهم للقياس بتداعي الصور.
قوام حجتهم خلط جسيم بين القضية الكلية (مثل: «كل الناس مائتون»)، والقضية المجموعية المكتسبة بجمع الجزئيات (مثل: «كل ركاب الباخرة نجوا من الغرق»). وقد قال مل معبرا عن رأيهم: إن القضية الكلية سجل أو مذكرة مختصرة للتجربة، والتجربة جزئية محدودة كما هو معلوم، فيتصورون القياس كأن مقدمته الكبرى مجموعية، تدرج تحتها مقدمة صغرى (مثل: «وزيد من ركاب الباخرة»)، فينتج أن زيدا نجا من الغرق. هذا قياس مزعوم وتأليف ظاهري فقط، فليست المقدمة الكبرى فيه كلية بمعنى الكلمة؛ فإنما أسند محمولها إلى موضوعها بعد التحقق من المحمول في كل واحد واحد من أفراد الموضوع، فهي تحتوي على النتيجة بالفعل، وتتأخر عنها في علمنا، وليس الحد الأوسط فيها (ركاب الباخرة) تعليلا للنتيجة كالحد الأوسط في القياس الصحيح. أما القضية الكلية حقا، فهي التي موضوعها معنى مجرد، ومن ثم كلي يحتوي بالقوة (لا بالفعل) على جميع الأفراد الممكنة، وبين حديثها نسبة ذاتية، فلا يشترط أن تتأخر في علمنا عن إحصاء الأفراد، وقد تكون مستفادة من التجربة بحديها وبالنسبة بينهما، ثم تكون في ذاتها مبدأ مجردا مستقلا عن الأفراد بفضل الإدراك العقلي الذي يرينا أن المحمول من ماهية الموضوع. فالقضية القائلة: «كل الناس مائتون» تعني أن ماهية الإنسان هي بحيث إنه مائت، ويدلل عليها بأن الإنسان مركب من عناصر متباينة، وأن كل مركب هكذا فهو منحل. فإذا قلنا بعد ذلك: «وسقراط إنسان»، أي: حاصل على الماهية الإنسانية؛ خرجت لنا النتيجة من الجمع بين القضيتين، أعني من الكبرى بوساطة الصغرى، دون أن تكون هذه النتيجة مفترضة في الكبرى، بل بالعكس هي الكبرى التي تحدث النتيجة. والذي يكسب موقف الحسيين شيئا من الوجاهة هو التعبير عن الكبرى من وجهة الماصدق «كل الناس مائتون»، فإنه يشعر كأنها نتيجة تعداد، فما إن نعبر عنها من وجهة المفهوم ونقول: «كل إنسان فهو مائت» أو «الإنسان مائت»، حتى يتبدد الوهم. وخير هذين التعبيرين وأصدقهما دلالة على الإدراك العقلي هو الثاني الذي يستبعد لفظ «كل»، فيمحو كل أثر للماصدق ويبرز الماهية مجردة.
أما تداعي الصور فإنه يحاكي الاستدلال؛ إذ يجعلنا نتوقع المستقبل ونعمل كما لو كنا قد استدللنا. فالحيوان الذي ضرب بالسوط يتوقع أن يضرب متى رآه أو سمع صوته، والعامي من بني الإنسان يتوقع المطر حين يدرك ظواهر جوية معينة. ولكن الاستدلال شيء آخر بالمرة؛ إذ إنه يعطينا السبب في تعاقب الظواهر ويجعل التوقع صادرا عن فهم لحقائق الأشياء، بينما التوقع في التداعي فعل آلي ناشئ من العادة. إن الأصل في الاستدلال هو المطلوب الذي يصير نتيجة، وهو لا يصير نتيجة إلا إذا وجدنا نسبة بين حديه، ولا نجد النسبة إلا بالحد الأوسط. فبالتداعي نستعيد صورة جزئية بمناسبة صورة جزئية بناء على تعاقب واقعي، وبالقياس نستكشف علاقة ضرورية بواسطة قانون أي قضية كلية. فإذا قلنا إن التداعي يفسر سيرة الحيوان وطفل الإنسان، فيجب أن نعتبر بأن الطفل لا يلبث أن يجاوز هذه المرحلة فيدرك العلاقة الجوهرية حينما يستطيع إدراكها، ويسأل ويلحف في السؤال حينما تخفى عليه. وليس يقتصر الطفل على التأدي من العلة المنظورة إلى المعلول المرتقب، ولكنه يعود من المعلول المنظور إلى علته، منظورة كانت أو غير منظورة، فيدل بكل ذلك على انتقاله من طور التداعي إلى طور التفكير. فانظر إلى دقة هذه الأمور، ثم اعجب لقلة تدقيق الفلاسفة الحسيين. إن الإنسانية تفكر تفكيرا قياسيا، وهم في جملتها وإن كانوا لا يدرون، فليسوا ينالون منه في واقع الأمر، إنما هو ينال منهم كما تنال الصخرة من ناطحها!
Неизвестная страница