وإني أكرر لحضراتكم - أيها السادة - أن الشعور بالألوهة في اعتباري ليس مسألة خوف أو جهل على ما يرى بعض المفكرين الغربيين، بل هي مسألة فطرية سيكولوجية مبعثها إحساس الجزء بالكل، وهل نحن في المعنى التصوفي إلا أبناء الله؟ ولولا هذا الإحساس لما قال الحلاج كلمته المشهورة التي أودت بحياته؛ لأن بيئته لم تفهمها فأساءت تأويلها، وجنت عليه شر جناية.
أما عقيدة الألوهة الخاطئة في بعض الأديان فقد تكون ناجمة عن خوف أو جهل، ولكن لا شأن لي بمثل ذلك؛ إذ إنما أتكلم عن الإحساس الأصيل، لا عن التقليد الموروث.
ويطيب لي تكرار الإشارة في حديثي ومحاضراتي الفلسفية الدينية إلى آية الكرسي المعدودة من جواهر القرآن الشريف، فإن هذه الآية الكريمة في نظري مفتاح التصوف الإسلامي، وباب الألوهة الحقة، ولو أن الإسلام تقليديا معدود بمعزل عن التصوف. ولكن هذه الآية تملؤني إحساسا بوحدة الوجود، واعتقادا تاما بأن الإسلام لا يفصل بين الله والعالم كما تفعل بعض الأديان. وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يتقشف، ويتصوف معتزلا في جبل حراء عابدا الله في ملكوته.
فعقيدة الألوهة في ضوء الإسلام لا تخالف العلم السليم، ولا الإحساس النفساني النقي، وهي بعيدة كل البعد عن الخوف أو الخرافة أو الجهل؛ لأنها تقوم على ركنين؛ أولهما: الإحساس الصوفي الفطري؛ إحساس الجزء بالكل. وثانيهما: وحدة الوجود التي تشع عليها آية الكرسي فتظهرها لنا بكل وضوح. ومن الآيات القرآنية التي ينبع منها التصوف قوله تعالى:
فأينما تولوا فثم وجه الله (سورة البقرة، آية 115)، وقوله:
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان (سورة البقرة، آية 186)، وقوله:
الله نور السماوات والأرض (سورة النور، آية 35).
فهل لنا نحن - المسلمين - بعد ذلك أي حاجة بذلك النقاش البيزنطي بين المفكرين الغربيين الذين تجاهلوا الاعتبارين السالفين، وحصروا تفكيرهم في نواح بعينها؟ ثم أليس فيما عرضه بعضهم من تفاسير مثالية ونحوها ما يندمج في الركنين السالفي الذكر؟
إن تأملاتي ودراساتي الطويلة تجعلني أعتقد أنه لا يمكن التخلي في النفس البشرية عن عقيدة الألوهة، وإنما من الجائز تحويل هذه العقيدة وقتيا، أو تعويضها - كما أشار إلى ذلك ألدوس هكسلي - تحت تأثير الحيرة، أو الضغط الاجتماعي، أو نحوه. ولعلي بهذا البيان قد أقنعت حضراتكم أن الإيمان الإلهي لا يتعارض بأي حال وتفهم قوانين الحياة، واستلهامها لخير الإنسان، بل أرى أن الأسماء والصفات المنسوبة إلى الله سبحانه وتعالى هي في الواقع رموز إلى العوامل المختلفة التي أطلقها في هذا الوجود؛ لتكييفه وتنظيمه بين هدم وبناء، وتبديل وتحويل على قاعدة الأسباب والنتائج، وكثير منها رموز لا يجوز أن نسيء تفسيرها. وظاهرة «النبوة» ذاتها خاضعة للحقائق العلمية النفسية، كما أوضح ذلك فيلسوف الإسلام الفارابي.
ونحن إذ نبتهل إلى الله سبحانه وتعالى، وإذ نصلي يجب أن نعلم أن الله - جل شأنه - ليس بحاجة إلى شيء من ذلك، فإن الزهو صفة آدمية، وليس صفة ربانية، وإنما نحن المستفيدون من الابتهال والصلاة؛ لأن في ذلك تقوية معنويتنا، وإشعارا لنفوسنا بالواجب علينا. وقد تعالى الله عن أن يبدل قوانين الوجود الدقيقة التي سنها لنظامه البديع إكراما لخاطر أحدنا، إذ معنى ذلك اضطراب الوجود، بل خرابه. وإنما نتيجة الابتهال والصلاة تقوية احتمالنا، وتهذيب مشاعرنا، وشحذ تفكيرنا لما فيه الخير والصلاح حسب نواميس الوجود، لا خلافا لها. وحتى ما نسميه الحظ إنما يتبع قانون الأرجحية
Неизвестная страница