قال في تقديمها عن معنى العقيدة العصرية:
ليس من الخير أن نقول - كما يقول كثير من الشكوكيين الأذكياء - إن الديانة نبعت من الخوف، أو إن الإيمان بما فوق الطبيعة إنما هو مجرد تعويض لما في دنيا الواقع من الجهامة والعبوس، فإذا كان هذا ولا ريب صحيحا في حالات الديانة الهمجية فليس هو بصحيح في موقف الإنسان المتحضر من المسيحية، وقد كان الهمجي يعبد أربابه وأرواحه لأنه يشعر بالرعب من الحياة والموت، ولكن المخاوف الصبيانية والخرافات المضللة قد زالت اليوم مع اتساع نصيب الإنسان من الفهم، وبقيت العقيدة ولم يكن للجماعات البدائية غنى عن السحر حيثما دعتها الحاجة إلى تنظيم مراسم العبادة، وليست كذلك جماعات الإنسان في الحضارة العصرية، فإن الإنسان العصري لا حاجة به إلى السحر وفي وسعه أن يتأمل الخير ويسعد بالسعي فيه وهو يعلم أنه ينبوع السعادة ... إن العقيدة لهي اسم آخر للشجاعة. وقد قيل بحق إن الديانة الصحيحة هي خطار - أو رهان - على الحياة كلها معلق على وجود الله ... •••
وقد تكلم اثنان من رجال العمل والسياسة عن العقيدة من حيث القيمة العملية في حياة الآحاد والجماعات.
فالمؤرخ المشهور هربرت فيشر الذي تولى وزارة التعليم زمنا في الحكومة الإنجليزية يكتب عن السيدة التي أسست جماعة العلم المسيحي التي تعالج أمراض الروح والجسم بقوة الإيمان، فيقول في كتابه (ديانتنا الجديدة):
دلت التجربة على أن الدقة في تصوير ما فوق الطبيعة قليلة الأثر في اجتذاب الناس إلى الديانة، وأن شيوع ديانة من الديانات يرجع على الأرجح إلى مبلغ ما تلبيه من مطالب النفس البشرية قبل رجوعه إلى مطابقتها لوقائع الحياة، وما كانت أسخف السخافات لتصد أناسا عن قبول دعوة تملأ في قلوبهم فراغا من حاجاتهم الروحانية، فهم يأخذون ما يطلبون وينبذون ما لا يدركون، وثمة قيمة محققة للدعوات الجريئة. وقد قال رينان إن الإنسان يولد وسطا ولا طاقة له بعمل ذي بال حتى يتعلق بحلم من الأحلام.
هذا واحد من المفكرين الذين اشتغلوا بالسياسة والإدارة ونظروا إلى الديانة من ناحية القيمة العلمية. أما الآخر فهو الشاعر الناقد اللورد فانسترت (Vansittart)
الذي قام بمهام السياسة الخارجية زمنا طويلا في الوزارة البريطانية، وقد سئل أن يقدم المجموعة التي كتبها طائفة من المفكرين عن مستقبل العقيدة فقال: إن فقدان الثقة بما فوق الطبيعة على صلة بفقدان الثقة بأنفسنا، وكلاهما لم يسعد أحدا، بل أعقب بعده خللا في ميزان الحياة، لم تصلحه مذاهب الشك واللذة.
ثم أشار إلى فقدان العقيدة في فرنسا فقال إنه ساقها إلى المسالمة والاستسلام قبل الأوان، وإلى فقدان العقيدة في ألمانيا فقال إنه ساقها إلى بديل لها من العصبية والنازية، ولولا البحر حول الجزر البريطانية لساقها فقدان العقيدة إلى مصير كهذا أو ذاك، وختم مقدمته قائلا: «لقد آن الأوان «أولا» لتعديل التشبث ببعض الأفكار والمراسم التي لا توافق المطالب العصرية، و«ثانيا» للعلم بأن العقيدة قد عرضت نفسها بعمل يديها لعوائق شتى، و«ثالثا» إن السلطان الروحاني تزداد صعوبات التوفيق بينه وبين المساوئ السياسية، مما قد بينت في غير هذا الموضع وسائل اجتنابه، و«رابعا» إن الأمل في التجديد والبقاء ينمو كلما فصلناه من الأدعياء، وقد يحسن أن نحلم ونحن مفتوحو الأعين فإنما نحن وأعمالنا مصنوعون من مادة الأحلام، ولكن لا شيء يمكن أن يقام على أساس من الهواء، و«خامسا» إن فصائلنا لا ينبغي أن تضر بوطننا، ومن ثم لا غنى لنا عن مزيد من الحيطة ومزيد من المعرفة، و«سادسا» إنه في الخيار بين الحيطة والمعرفة ستظل العقيدة قوام ما نرجوه وإن لم تكن على الدوام برهانا على ما نجهله ...» •••
تلك نماذج متفرقة من أطراف متعددة، نحسبها كافية للتعريف بمعنى العقيدة كما يفهمها مفكرو هذا العصر في الحضارة الأوروبية، وقد لاحظنا في جمعها التعويل على التجارب النفسية أو التجارب المنقولة من الحياة، ولم نعول كثيرا على روايات التاريخ ودراسات المقارنين بين الديانات كما تحفظها السجلات والمأثورات؛ لأننا في هذه العجالة إنما ننظر إلى العقيدة الحية كما يعيش بها الأحياء المثقفون في العصر الحاضر.
ويتبين من جملة الآراء المتقدمة أن العقيدة التي يصح أن توصف بالدينية هي العقيدة التي تعتمد على سند فوق الطبيعة، وأن العقيدة على أية حال قوة مطلوبة لا يستغني عنها من وجدها ولا يطيق الفراغ منها من فقدها، ولا يرفضها من اعتصم منها بمعتصم واستقر فيها على قرار.
Неизвестная страница