قلت: صدقت ... وما رأيك يا صديقي في أن تغض النظر الآن عن رؤياك ورموزها لترخي لنفسك العنان في حديث تنطلق فيه حرا، فتروي عن حياتك الجامعية ما يعن لك أن ترويه، على ضوء ما توحي به الرؤيا، دون التقيد بتفصيلاتها؟
قال: سأفعل ذلك، ولكن لماذا أغض النظر عن ذلك الحلم القوي في تعبيره، والواضح في إشاراته وتصويره؟ وكل ما في الأمر من التغيير الذي أحدثه فيه، وهو أن أجعل جزأه الأخير الخاص بالجري وراء طائرة أقلعت يأتي أولا، وبذلك تستقيم لي القصة في تسلسل فصولها. فالحق أني منذ شبابي الباكر، لم تتعلق آمالي بشيء، كما تعلقت بحياة علمية وأدبية أعيشها. ففي ذلك الشباب الباكر - أو قل فترة المراهقة - تعددت أمامي النماذج، فالأسماء التي كانت تدوي في آفاق حياتنا كثيرة ومنوعة الأهداف، ففي دنيا السياسة نجوم سطعت، وفي دنيا المناصب الحاكمة سلاطين وملوك وأمراء ووزراء، وفي دنيا المال أقطاب، وكذلك كانت حياة العلم والفكر والأدب عامرة بأعلامها. فما تعلق إكباري وإعجابي إلا بهؤلاء الأعلام، وما رجوت لنفسي طريقا غير طريقهم، ولا هدفا إلا من جنس أهدافهم، وبهذا رسم أمامي الطريق.
سرت على ذلك الطريق سيرة كانت فيها من العثرات أكثر مما كان فيها من التوفيق، وكنت مع كل عثرة أيأس بالكلام، ولكني لم أيأس قط بالفعل وبالعمل، وما أكثر ما رددت لنفسي عبارات التوبيخ كلما رأيتها تبذل الجهد مضاعفا، بعد أن يكون الأوان - في ظني - قد فات، وأصبح الجهد المبذول كبذرة بذرت في أرض جدباء، وأحسب أن ذلك الجزء من الحلم، الذي كنت فيه أعدو لاهثا وراء طائرة أقلعت وغير مسلح بالأدوات اللازمة للسفر؛ أقول إن ذلك الجزء من الحلم، قد أجاد لي التصوير لتلك الحالة الغريبة التي طال معي أمدها، والتي لم تخل يوما واحدا من علاقة تتأزم بيني وبين نفسي، فجهود تبدو وكأنها ضائعة، مما كان من شأنه أن يكف صاحبها يائسا ليستريح. تقابلها من الجانب الآخر عزيمة صممت على ألا يسقط من قبضتها اللواء، وإني لأذكر جيدا كم حاولت إقناع الجانب اليائس من نفسي، ألف مرة بعد ألف مرة بأنني إنما أعمل للعمل في ذاته، لا لنتائجه؛ لأن حقيقة الأمر في حياة العلم والفكر والأدب والفن، هي أن الفاعلية المبذولة هي جزاء نفسها، فإذا أثمرت أخرى بعد ذلك في الحياة العملية؛ كان خيرا من الله، وإلا ففي ذاتها جزاؤها الكافي، والعجيب يا أخي هو أن بعض مقومات ذلك الجزء من الحلم، قد جاء انعكاسا حقيقيا لحياتي الفعلية التي عشتها، ولكن مع تعديل لا يخلو من المغزى، فالخندق الذي صادفني في طريقي إلى الطائرة السراب، كان له مقابل حقيقي في حياتي، لكنه في واقعه الماضي كان يخلو من الدرب المدقوق بالحجر الأبيض الذي رأيته في رؤياي، والطريق الذي كان يعبر إليه عابر الخندق لم يكن مرصوفا ولا نظيفا ولا خاليا، كما رأيته في الرؤيا، ولا أدري إن كان هذا التعديل قد جاءت به الصورة الحالمة؛ لتذكرني بأن الصعب يسهل مع الزمن، وبأن القانون الإلهي لحياة الإنسان هو «أن مع العسر يسرا».
وكانت الطريقة التي انكمش بها كرسي الأستاذية والتي تحول بها، قريبة جدا في مدلولها، من الصورة التي وصفها «كافكا» عندما صور إنسانا أخذ أثناء الليل يتحول إلى خنفساء، ولقد أراد بذلك أن يقول رأيه مختصرا فيما أصاب حياة الإنسان في عصرنا، وهو يعاني جانب السوء الذي تولد عن جوانب الارتقاء. وأما أشد الرموز بشاعة، وهو الذي تحولت به حقيبة الكتب والأوراق إلى مقطف يشبه مقطف جامع القمامة، فإنك لتعرف كم هو يقرب من الصدق في تصويره، إذا كنت قد رأيت ما رأيته أنا ذات يوم في طالب لم يكد يفرغ من امتحانه حتى جمع مذاكرته وكتبه وأشعل فيها النار، ووقف أمام الكومة المشتعلة ضاحكا بما هو شر من ضحكات نيرون عندما أشعل النار في روما، ووقف في شرفة قصره ليمتع عينيه بالنظر إلى صنيعة يديه الآثمتين، وإنما جاءت ضحكات الطالب المعتوه شرا من ضحكات نيرون في مغزاها؛ لأن نيرون كان في بلاهته صادرا عن روح العبث، وأما الطالب فقد أحرق العلم الذي حصله بدافع من روح الانتقام. ولقد انتهت بي رؤياي إلى أن وجدت نفسي على كرسي خشبي صغير وطيء، في غرفة عارية أرضا وجدرانا، لكنني لن أتجاهل برغم ذلك كله ذينك المربعين المشمسين المضيئين الدافئين، اللذين أنفذتهما إلى أرض الغرفة نافذتان مفتوحتان على سماء طلقة لا نهائية الأبعاد، فذلك هو الرجاء المصري، كان كلما كبا في عثرة استقام له الطريق بهداية من الله.
قلت: لقد رأيتها منذ اللحظة الأولى رؤية البداهة فور استماعي إليك تروي رؤياك؛ إذ رأيت فيها جامعة تفقد مقوماتها وأستاذا يصيبه إحباط، لكن للشمس شروقها بعد كل غروب.
وتحقق لي الأمل الذي نشدته منذ الصبا، وأتيح لي من أسباب الدراسة العلمية ما أحمد الله عليه حمدا لا ينقضي، وأصبحت أستاذا بالجامعة، وها هنا يأتي الجزء الثاني والأهم من رؤياي، ويشهد الله أني ما سعدت في حياتي الجامعية بقدر ما شقيت. فحقيقة الواقع كما تراها بعين منزهة عن الهوى وعن الرغبة العمياء في الدفاع عن النفس، حتى إذا وجدت تلك النفس على ضلال وعلى ضعف وعجز؛ أقول إن حقيقة الواقع كما تراها من الداخل بتلك العين المنزهة تفزعك وتشقيك، وإني لأقولها لك يا أخي قولة حق يرتجف لها اللسان وترتعش عند نطقها الشفتان، وذلك لأنها حقيقة لا يرضاها إلا من فقد الرجاء في أن نثبت وجودنا أحياء بين الأحياء، وتلك هي أن رموز الرؤيا في أبشع دلالاتها لم تبعد كثيرا عن الدقة في تصويرها للواقع كما يقع يوما بعد يوم وعاما بعد عام.
فإذا كنت في الحلم قد ذهبت إلى الكلية لأحاضر الطلاب، فوجدتها مبنى أجرب، ثم صعدت السلم إلى الطابق العلوي، فإذا درجاته لا تحض على الصعود، ودخلت قاعة الدرس، فإذا قطع الأثاث نفسها قد فقدت نظامها، وإذا الطلاب قد بردت أجسادهم، والتمسوا الدفء يأتيهم من خارج نفوسهم، وما ذلك الخارج المرتجى إلا مربعان مشمسان صغيران لا يسعان جميعهم، فيتزاحم بعض، ويخرج من دائرة الأمل بعض آخر، ولقد بلغ التصوير أدق حالاته، عندما رأيتني في الحلم أهم بنقل الكرسي الذي أعد لجلوسي من النور إلى الظل، فمن ناحية تلك هي نوازعي في حياة اليقظة، ومن ناحية أخرى، فإن تعبير الرؤيا في ذلك الصدد ، هو أن العلم قد فقد كثيرا جدا من مكانته في حياتنا، ولم تعد للأستاذ الجامعي تلك المنزلة العليا التي كانت له في عهد الأساطين.
الفصل الثامن والعشرون
العصور هي أفكارها
لم تكن مناسبات قليلة، تلك التي صادفتني آنا بعد آن، لأقرأ فيها لكاتب أو لأسمع فيها لمتحدث، تساؤل المتعجب من دعوة تدعو إلى أن تتجه الأمة العربية في عصرها هذا، نحو تربية أبنائها وبناتها، وتثقيفهم، على نحو يخرجون منه بتكوين فكري ووجداني، يظلون به عربا كما هم في هويتهم بكل ما تتميز به من سائر الأمم، ثم يستطيعون به - في الوقت نفسه - أن يواجهوا عصرهم الراهن بكل ما يتطلبه ويقتضيه ممن يحيون فيه.
Неизвестная страница