لا بد من وقفة زاعقة
وهنا لا بد لنا من وقفة زاعقة حاسمة، هنا لا بد أن ندق جرسا أو نطلق مدفعا أو نصنع ضجيجا هائلا؛ إذ قد وصلنا إلى أس البلاء وعلة العلل، ألا وهي عدم الرغبة أو القدرة على تحمل المسئولية، وكما تؤدي كل الطرق إلى روما مثلما قالها المرحوم الدوتشي موسوليني، فإن كل أمراضنا وعللنا ومخازينا الاجتماعية تقود إلى هذه الحقيقة التي أصبحت في حاجة إلى ثورة خاصة بها تقتلعها من جذورها اقتلاعا. أجل، نريد ثورة تقوم لتطالب بمطلب واحد فقط، ألا وهو أن نتعلم كيف نتحمل المسئولية ونتحملها بشجاعة، ومهما كان الثمن. فلقد تدربنا على التهرب من المسئولية كبيرنا وصغيرنا، حتى أصبحنا عباقرة في هذا المجال.
قد تسمع من المصري أي شيء، مثل: أنا جدع ... أنا حر ... أنا متأسف ... أنا لي رأي، ولكنك أبدا ولكي نكون دقيقين الدقة العلمية الواجبة، أندر الناس أن تسمع: أنا المسئول عن كذا أو كيت. وخاصة إذا كانت هذه المسئولية تتضمن مسئولية عن خطأ ما، بل بالذات حين تكون المسئولية متضمنة ذلك الخطأ.
في حياتي الصحفية التي ليست بالقصيرة، وفي حياتي كمواطن، تلقيت كما تلقى غيري آلاف الشكاوى، وبدون أي مجهود أو تعب تلاحظ في تلك الشكاوى أن الدنيا كلها قد أخطأت ما عدا صاحب الشكوى؛ الغلبان المظلوم الذي قاسى وكابد من كل هذا الظلم الفادح، بمعنى أنه غير مسئول إطلاقا عما حدث له، بل إنه حين يلجأ لرفع هذا الظلم الذي حاق به يلجأ إليك وإلى العشرات غيرك (فالشكاوى عادة تكون إلى أكثر من جهة ومطبوعة على ورق كربون إن لم يكن بالبالوظة أو بالرونيو أو أحيانا بالمطبعة) كي يرفع هذا الظلم عنه. بمعنى آخر هو لا يريد أن يكون مسئولا أيضا عن رفع الظلم عن نفسه، وإنما يريد أن يلقي عليك وعلى الآخرين مسئولية رفع الظلم. في الحب، في الصداقة، في كل شيء يريد كل منا أن يتنصل من مسئوليته الشخصية عن عمل ليلقيها على غيره. والاستعمار هو المسئول حين عرفنا كلمة الاستعمار، التكنوقراطية أو البرجوازية أو الرأسمالية أو الإقطاعية، كل هؤلاء هم المسئولون عن أنهم تخطوني في الترقية. أما أن يكون هذا التخطي مسئوليتي الخاصة باعتبار أني مهمل أو مقصر أو مشاكس فهو ما لا يمكن أن يخطر على بالي مطلقا.
من المسئول عن النكسة؟
لهذا فكما نحيا مجتمعا متلاصقا متقاربا له ألف نوع ونوع من القرابة، فنحن نعيش معا ونخطئ معا، ولكننا أبدا لا يحاسب بعضنا البعض، أو إذا فعلنا نجد المسئولية تتقاذفها الألسن كالكرة تخلصا منها، بل لا نرضى حتى أن تكون المسئولية مسئوليتنا جميعا، إنما جماعتنا كطوائفنا وهيئاتنا، لا بد أن تقذف بالمسئولية خارجا تماما لتحملها لكائن أو قوة غريبة عنا.
لا نتهرب جبنا
والغريب أننا لا نتهرب من المسئولية جبنا، مع أن المقياس الوحيد للشجاعة هو القدرة على تحمل المسئولية، إنما نحن نتهرب منها لأننا منذ أكثر من سبعة آلاف عام اكتشفنا للعالم الخير والشر. وفرقنا بينهما تفريقا عميقا بشعا، وباعدنا بينهما بحيث أصبح أحدهما الجنة والآخر النار، أحدهما الكمال المطلق والآخر الفساد المطبق، وبحيث أصبح الخطأ صنوا للشر، أي أننا بالغنا كثيرا في تجسيد بشاعة الشرير أو المخطئ مبالغة أصبح معها الاعتراف بالخطأ مسئولية أكبر بكثير من أن يتحملها الكائن الإنساني الفرد، ويبقى حيا ويظل مواطنا مثل غيره من المواطنين. وللأسف لم يكن في التراث الفرعوني حديث كثير عن العفو، إنما الشر وصمة أبدية تلحق بروح فاعله وتظل معه في الحياة الأخرى. الخطأ عندنا إذن بهذه الآلاف المؤلفة من السنوات المتراكمة أصبح شيئا أبشع آلاف المرات من خطيئة المسيحيين وحرام المسلمين، ولست أدري ماذا كان يمكن أن يصبح عليه وضع الشعب المصري لو لم يجئ المسيح ومحمد وتدخل في قاموس المصريين ألفاظ العفو والمغفرة والسماح والتوبة.
استمرارا للصراحة أقول
أحس أني وإن كنت لم أبعد عن الهدف الذي حددته لكلمتي، إلا أني طرقت موضوعات، أو بالأصح رءوس موضوعات كثيرة، كل منها بحاجة إلى وقفة وتأمل طويلين. فالهدف كان أن أوضح أن لجوئي إلى العمل الإداري وتركي الصحافة لم يكن جريمة أو خطأ بشعا كما تفضل عشرات من الزملاء والأصدقاء وصوروه لي، وكان السؤال دائما يلح ويبقى: لماذا؟ لماذا أترك الكتابة للصحافة وأزاول عملا مهما كان ما أفعله فيه فهو بالتأكيد أقل فاعلية من الكتابة؟ وهنا لا بد أن أعترف أن هذا صحيح، وأن الكتابة للصحافة فعلا أهم وأبقى، ولكني - استمرارا لموجة الصراحة وفتح القلب على مصراعيه - أقول إني تركتها مضطرا، فقد كان ذلك قبل النكسة، وكنت قد تلفت ذات صباح، وكل صباح تحدث لي صاعقة فكرية أحس معها بكل كياني وأفعالي وأحلامي وأخطائي وميزاتي تتفاعل فجأة وتحدث شرارة كهربية ضخمة تنير لي الطريق، فألمح النفس على حقيقتها. وعلى هدي هذه الشرارة وجدت أني أبت بالكتابة في الصحافة إلى زقاق مسدود، فلم يعد أمامي موضوع لليوميات إلا نقد لمحافظة أو تريقة على روتين أو مجاملة لكاتب زميل على كتاب أخرجه أو مسرحية كتبها أو نقد لفيلم لا يستاهل النقد. وأفعل هذا لا عن فقر في الموضوع، وإنما عن عجز، فأهم ما يشغل بالي وبال الناس أن قضايانا الأساسية، مشاكلنا الجذرية، بعيدة عن متناول القلم، لا لأن هناك حجرا على حرية الكاتب، فالكاتب حقا وصدقا كان حرا أن يكتب ما يشاء بشرط أن يتحمل مسئولية ما يكتب، ولكن المشكلة أني كنت أحس أن الكتابة نفسها أصبحت غير مجدية بالمرة.
Неизвестная страница