التي تنكر كل الإنكار أن يكون السيد المسيح قد تجسد في جسد من المادة، وإنما هو كيان شبيه بالمادة في النظر وليس منها في الحقيقة.
والمهم أن المسيحية حين شاعت وانتشرت في الشرق وفي مصر خاصة، كانت بمثابة احتجاج روحاني على السيطرة الرومانية، وإننا نستطيع أن نقسم العالم الروماني يومئذ إلى قسمين: قسم توافقه عبادة الإمبراطور وهم السادة الحاكمون، وكانت نفوسهم تقبل القول بالخلط بين الطبيعة الإنسانية والطبيعة الإلهية على صورة من الصور، وقسم لا توافقه عبادة الإمبراطور وهم الرعايا الساخطون على السيطرة الأجنبية، وكانت نفوسهم تنفر غاية النفور من الخلط بين الطبيعتين الإنسانية والإلهية، ويرفضون كل فكرة تومئ إلى جواز عبادة الإمبراطور، أو جواز الصفة الإلهية على الآدميين.
وما استمات أتباع الأديان الوحدانية في تمييز العنصر الإلهي، كما استماتوا في تمييز هذا العنصر بعد طغيان العواهل الرومانيين وطموحهم إلى التشبيه بالأرباب!
فاليهود كانوا ينزلقون إلى عبادة الأرباب الكنعانية والبابلية والمصرية قبل خضوعهم لدولة الرومان، فلما سامهم عواهل الرومان أن يضعوا تماثيلهم في الهيكل، أو يعلقوا عليه شارة الإمبراطور الإله تمردوا غاية التمرد، وأقاموا الحاجز الحاسم بين سلطان الأرض وسلطان السماء.
والأمة المصرية كانت أشد الأمم سخطا على الدولة الرومانية، وأشدها تقبلا للديانة المسيحية، ثم أشدها إنكارا بعد ذلك للقول بالطبيعتين، وهو القول الذي لم ترفضه الكنيسة في عاصمة الدولة الشرقية، ولا في عاصمة الدولة الغربية، ولم ترفضه كذلك كنيسة أنطاكية كل الرفض؛ لأنها كانت على البرزخ بين القساوسة الأوروبيين والقساوسة الشرقيين. وقد رجع بعض المؤرخين إلى تعليل هذا الفارق، فعللوه بالفارق بين النفس الشرقية والنفس الغربية، وهو هنا فارق متعسف جد بعيد، وإنما حقيقته أنه الحد الحاسم بين النفور من عبادة الإمبراطور، وبين الترخص فيها أو الإغضاء عنها؛ ولهذا كان في آسيا الصغرى أناس يقولون بالطبيعتين وهم شرقيون، وكان في مصر أناس من الأصل اليوناني يقولون بالطبيعتين، ومعهم فريق من المصريين الذين لا يتعصبون على الرومان؛ بل لهذا كانت قبائل القوط والتيتون تدين بمذهب آريوس وتقبل عليه من ناحية التفرقة بين ربوبية الأب التي لا مثيل لها، وربوبية الابن التي خلقها الأب ولم تكن قائمة منذ الأزل، فهذه التفرقة كانت تروق عشائر القوطيين والتيتون، وتدخلهم في زمرة الثائرين على تقديس الإمبراطور من هذا الجانب البعيد.
فعند البحث في الفوارق بين المذهب ينبغي أن نذكر هذا الفارق في مقدمة الفوارق النفسية والعقلية التي قسمت الدولة الرومانية من حيث التنزيه والتوحيد إلى قسمين: قسم السادة الذين لا يسخطون في قرارة ضمائرهم على الخلط بين الطبيعة الإنسانية والطبيعة الإلهية، وقسم الرعايا المضطهدين الذين امتلأت ضمائرهم سخطا على هذه العقيدة، فلم تغب قط عن أنظارهم ولا عن عقولهم كلما واجهتهم المذاهب والبدع بشيء جديد.
ومصدر القوة الكبرى التي اشتهرت بها المسيحية المصرية وجعلتها ندا مصاولا للدولة الرومانية، هو أنها كانت قوة تمتزج فيها العقيدة الدينية والحماسة الوطنية.
ثم دانت الدولة الرومانية بالمسيحية فلم يمتنع هذا النزاع بين القسطنطينية ورومة من جهة، وبين الإسكندرية من الجهة الأخرى؛ لأن الجانب القومي منه لم يزل على حماسته الأولى، بل أصبح بعد ذلك أشد وأقوى، إذ كان طغيان الدولة الرومانية - بعد تحولها إلى دين رعاياها - قد تناول السيطرة على الروحانيات، بعد أن كان مقصورا على السياسة وشئون المعيشة الدنيوية.
وعلى ضوء هذا الفارق أيضا ينبغي أن ننظر إلى نتائج المجامع الدينية التي انعقدت في صدر المسيحية، فكل ما رجع منها إلى سلطان القسطنطينية أو رومة قوبل بالمقاومة في الإسكندرية ومن يدينون بمذهب كنيستها، وكل مجمع ديني ملك فيه الأساقفة الإسكندريون حريتهم وشرحوا فيه مذهبهم، لم يجد في مصر مقاومة بين جمهرة المصريين، ولم ينظر إليه المصريون نظرتهم إلى السيطرة الأجنبية التي تفرض مشيئتها عليهم دينا ودنيا، ولا تدع لكنيستهم حقها من الرعاية والكرامة.
وقد كان سلطان الرأي العام المصري مخيفا مرهوبا على مخالفيه والمارقين عليه، فكان الأساقفة المصريون في مجمع خلقيدونية يرتعدون فرقا من العودة إلى بلادهم بغير ما فوضتهم فيه، وكانوا يصرخون في وجوه الأعضاء الآخرين قائلين: اقتلونا هنا إن شئتم، ولا تردونا إلى بلادنا بغير ما ترضاه!
Неизвестная страница