وينظر إلى المشرق فيرى الشاهنشاه ملك الملوك قتيلا، ويرى ابنه كسرى الثاني ناجيا بنفسه إلى حمى بيزنطة، يتبناه الإمبراطور موريس ويزوجه من إحدى الأميرات طمعا في عرش فارس من طريق الوراثة، وقيل: إن هذه الأميرة كانت بنت الإمبراطور وإن كان قولا مشكوكا فيه.
وكان كسرى الثاني قد عاد إلى عرشه بمؤازرة الإمبراطور الروماني، فلما قتل هذا نهض كسرى الثاني للأخذ بثأره ظاهرا، ولأخذ بلاده باسم الأميرة البيزنطية وحق الفتح والغلب في باطن الأمر، واجتاح جيوش الدولة المتداعية أمامه، ووصل بجيوش فارس إلى إفريقية الشمالية، ولم يرجع عن غاراته إلا بعد اضطراره إلى إنقاذ بلاده من حملة هرقل التي أوغلت إلى العراق وما وراءه، ونفذت عنوة إلى قلب الديار الفارسية.
وبينما الإمبراطور هرقل يتقدم إلى بيت المقدس لرد الصليب إليه، إذا برسالة النبي العربي تدركه في الطريق، وإذا به قد علم من أخباره من عرب الشام والجزيرة وعرب قريش المتجرين بفلسطين أمورا ذات بال يحسب لها كل حساب، وتصل الرسالة إلى المقوقس من النبي العربي الذي خاطب هرقل، فلم يجسر هذا على رده والترفع عليه، فيعلم أنه أحرى بالحيطة والتقية، وأن المصانعة والانتظار أجدى من الغلظة والاستنكار.
ومن الجائز جدا أن يكون المقوقس قد علم بجواب النجاشي عن رسالة النبي العربي، وأنه أيده ولم يحفل برجاء المشركين من قريش، ثم تمضي فترة قصيرة، فيتسامع المشرق كله إلى أقصى بلاد الصين بغزوات أتباع النبي في العراق والشام وفلسطين، وأنهم قد هزموا دولة الأكاسرة ودولة القياصرة، ودخل في ملتهم وكلاء فارس في اليمن الذين أمرهم الشاهنشاه باعتقال نبي العرب لاجترائه على دعوته إلى الإسلام!
كيف يقع كل هذا من نفس المقوقس في وطنه المهدد المضطرب بين الغارات والمطامع والمنازعات؟
إن المؤرخ الحديث قلما يرد على خاطره أن يضع نفسه في مواضع الرجل، ويفكر مثله تفكير السياسي وتفكير الزعيم، وتفكير المتدين المؤمن بالنبوات! ماذا لو كان صاحب الدعوة هو النبي الموعود من ذرية إبراهيم؟ وماذا لو كانت رسالته مقدمة لأشراط آخر الزمان؟ وماذا لو لم يكن هذا وذاك وكان أنه قوة لم يغلبها غالب من القياصرة ولا من الأكاسرة؟
وإن المقوقس لينظر يمينا وشمالا بين هذه الزعازع والأعاصير، ثم ينظر في داخل البلد فلا يرى أحدا يريد أن يفدي دولة الرومان بحياته وإن استطاع، وإنه مع ذلك لغير مستطيع!
والمؤرخ الحديث يركبه غروره فيظن أن الجهل بالوقائع والأسماء أيسر شيء يتهم به أبناء ذلك الزمان، ويكاد يجزم بغرابة الأمر كله؛ لأنه يتوهم أن هذه الحوادث العالمية كانت مجهولة في بلاد العرب، ولم يكن عند أهلها علم بها وبما يترتب عليها في مصر والقسطنطينية وسائر الأقطار.
على أن الواقع أن هذه الحوادث العالمية كانت من أخبار بلاد العرب اليومية، وكان العرب يتلقونها أحزابا وشيعا، ويعقدون المراهنات على حاضرها ومصيرها، وقد تراهن المسلمون والمشركون على عاقبة الغزوة الفارسية البيزنطية ، ودخل في الرهان أبو بكر الصديق - رضوان الله عليه. وجاء في القرآن الكريم من أول سورة الروم:
الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين ... [الروم: 1-4].
Неизвестная страница