Мир плотин и оков
عالم السدود والقيود
Жанры
ليلة المستشفى
إذا كان السجين يستنفد كثيرا من الحيلة والخبث في تهريب الممنوعات فمن الحق أن نعلم أنه لا يستنفد حيلته كلها ولا خبثه كله في هذا المطلب العزيز، ولكنه يستبقي كثيرا منهما أيضا لتهريب صنف آخر عزيز عند السجناء وإن كان بغيضا أشد البغض عند الطلقاء، وهو المرض، قاتله الله.
نعم «المرض» أعني، ولا خطأ في الكتابة ولا في الطباعة! فإن الأمور لتنقلب أحيانا في السجن رأسا على عقب حتى يتمنى المرء فيه ما يتمنى الخلاص منه وراء جدرانه، والمرض بعض هذه الأمور .
إذا تيسر بقضاء من الله فذاك لطف من الله! وإذا لم يتيسر فالصناعة تغني هنا ما ليست تغنيه الطبيعة، والمرض الصناعي المقلد عزاء لمن فاته المرض الطبيعي الأصيل، حتى يأذن الله بما يشاء.
ولهذا برع السجناء في تقليد الأمراض على أنواعها وفي مقدمتها الأمراض الجلدية والأمراض التي ترتفع بها الحرارة، فليس أيسر عليهم من اصطناع الحمى أو اصطناع الجرب والبثور الكريهة وأعراض الإصابات السرية، وتسمع الواحد منهم يهمس لصاحبه في أثناء الرياضة أو يناديه بالليل إذا أمن الوشاية: «غدا حمى في العيادة يا فلان!» أو «غدا في قسم الجرب!» فإذا هو موعد يلتقيان فيه ساعة بل ساعات وقد يطول إلى يوم بل أيام؛ لأن المريض الذي يلتبس مرضه على الطبيب يحجز في قسم «الملاحظة الطبية» حتى تنجلي حقيقة دعواه وتسفر الملاحظة عن دخوله المستشفى أو إعادته إلى الحجرات، مع جرعة مريرة من العقاب.
وليس العقاب بالشيء المهم عند مصطنعي المرض وطلاب الراحة فترة من الزمن ولو أعقبها التعب المضاعف، فإن السجين إذا ظفر بالانتقال إلى قسم «الملاحظة الطبية» أياما فقد غنم الفراغ من العمل أولا، وغنم الطعام المقبول في بعض الحالات ثانيا، وغنم لقاء أصحابه الذين يحال بينه وبينهم في الحجرات والمصانع، وقد يسعده الحظ عند الطبيب فيغنم الصعود إلى ساحة الرضوان عند السجناء، وهو المستشفى!
وهذا المستشفى إذا رآه إنسان من الطلقاء عافه لأول نظرة، ولم يصبر على البقاء فيه ساعة واحدة، ولكنه مع ذلك أمنية لا يسعد بها إلا المجدود وصاحب الحيلة التي تتسع لصنوف كثيرة من المداورات والمراوغات ويعلمها بعض موظفي السجن وبعض الأطباء، ولكن لا يتسع المقام هنا للتفصيل والبيان.
أما كاتب هذه السطور فليس من السعداء المجدودين، ولكنه من الأشقياء المطرودين! لأنه وصل إلى المستشفى وفر منه تحت سواد الليل ولما تنقض عليه غير ساعات، وماذا عساك أن تصنع لمن يرقى إلى هذه الأمنية الغالية ثم يدركه البطر فيدفعها عنه بيديه؟
هكذا حصل، فقد علم القراء أنني دخلت السجن بذخيرة من السعادة في عرف السجناء تكفي عشرة منهم لو كان هناك عدل في القضاء!
دخلته بألوان من السقام فوق الاصطناع وفوق التقليد، ولم ألبث أن نقلت إلى المستشفى - حكما ورسما - وأنا لم أبرح حجرتي الأرضية التي لا تدخلها الشمس ولا تفارقها الرطوبة! فلما سألتهم: ألا توجد في المستشفى حجرة منفردة تدخلها الشمس وتفارقها الرطوبة؟ قالوا: نعم توجد هذه الحجرة، ولكنها مشغولة بدواليب الملابس، كما أسلفت في بعض هذه المقالات.
Неизвестная страница