وإذا كان الأمر كذلك فلماذا إذن نهتم بدراسة العوالم القطبية والباردة؟ قد يبدو لأول وهلة أن الإجابة على هذا السؤال صعبة، وهي حقا صعبة وذلك لأن كثيرا مما سنقوله يقع في عالم الغد، فإلى جانب أن الدراسة الجغرافية للأقاليم الباردة في العروض العليا تمثل الأهمية الضرورية للمعرفة العلمية لجزء من سطح كوكبنا الأرضي، فإن العالم القطبي قد أصبح يبرز على خريطة العالم بروزا واضحا منذ الخمسينيات من هذا القرن، وقد بدأ بروزه يتضح من خلال عوامل جيوبوليتيكية تعود إلى نمو عصر الطيران بعد الحرب العالمية الثانية وظهور عصر الفضاء والصواريخ.
لقد ترتب على الحرب العالمية الثانية نزول القوى العالمية الأولى في أوروبا الغربية - الإمبراطوريتان الإنجليزية والفرنسية، وقوى المحور الأوروبي الأوسط ألمانيا وإيطاليا - إلى المرتبة الثانية، بينما صعدت قوتان جديدتان إلى المرتبة الأولى: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وتواجه هاتان القوتان بعضهما - ليس عبر الطريق التقليدي العادي الذي يخترق أوروبا والمحيط الأطلنطي الشمالي - إنما مواجهة مباشرة عبر العالم القطبي الشمالي، الولايات المتحدة بامتدادها إلى ألسكا ومناطق نفوذها في جرينلاند وشمال كندا، أصبحت تواجه سيبريا السوفيتية التي تطوق المحيط الشمالي فيما يشبه نصف حلقة كاملة، وفيما بين الكتلتين المتواجهتين تحتل سكندنافيا الأوروبية (فنلندا - السويد - النرويج - أيسلندا) جزءا مهما في المواجهة العالمية للقطبين السياسيين الكبيرين، ولكنه صغير، وهذه الأهمية ترجع إلى: أولا: إن هذا الجزء الأوروبي من العالم الشمالي يمثل المدخل الأساسي الواسع بين المحيط الشمالي والأطلنطي الشمالي - المدخل الذي يتحكم فيه مثلث يرتكز على: (1) سواحل النرويج، (2) أيسلندا، (3) جزر سفالبارد. ثانيا: إن هذا المدخل هو الذي يمثل البحر المفتوح طوال السنة نتيجة تأثيرات مشتركة من تيار الخليج الدافئ وكتل الهواء الجنوبية الغربية التي تدور حول منطقة أعاصير أيسلندا، بينما تتجمد مياه المحيط الشمالي ومضيق برنج ومداخل الأرخبيل الهندي وبحار جرينلاند، ومن هنا تتضح أهمية الجزء الأوروبي في العالم القطبي من الناحية الجيوبوليتيكية بالنسبة لعالم الكتلتين الشرقية والغربية المعاصر، وعالم الصواريخ العابرة للقارات وعصر الطيران القطبي وعصر الفضاء، وإلى جانب ذلك فإن العالم القطبي الأوروبي هو - حتى الآن - أكثر مناطق العروض العليا سكنا وسكانا ونشاطا اقتصاديا وحضارة، ومن ثم كانت الأهمية التي تدعونا إلى دراسته بالتفصيل كجزء له ثقله الخاص في إقليم العروض الشمالية والقطبية.
وإلى هنا تنتهي الأسباب الواقعية في أهمية العالم القطبي وبداية بروزه على خريطة العالم الحديثة، وهي في حد ذاتها أسباب مقنعة لكي نفرد لهذا العالم دراسة خاصة.
ولكن هناك أسبابا أخرى، معظمها مستقبلي، تدعونا إلى دراسة هذا العالم أيضا، وتنحصر هذه الأسباب في المستقبل الاقتصادي والحضاري لعالم العروض العليا، وأقرب أشكال المستقبل الاقتصادي للتحقيق هي الاكتشافات الكبيرة للثروة المعدنية في أجزاء متفرقة من العالم القطبي: حديد نوربوتن في شمال السويد وحديد شبه جزيرة نبرادور في شمال شرق كندا وفحم شغالبارد ونونازميليا وذهب ألسكا وسيبيريا وبترول سيبيريا وألسكا والنحاس والمواد المشعة في مناطق مختلفة من سيبيريا وشمال كندا، وهذه وغيرها من الكشوف المعلنة وغير المعلنة والمستقبلة قد أصبحت تعطي للعالم الحديث نقط ارتكاز جديدة داخل العروض الشمالية العليا تمثل قواعد ثابتة لغزو هذا العالم المنعزل وضمه إلى قائمة الأراضي المستغلة بصورة أو بأخرى.
ومن أهم الأمثلة على ذلك نشأة مدن التعدين الرئيسية، وأقدمها كيرونا في السويد التي يزيد سكانها عن 20000 شخص، وفي المنطقة السوفيتية مدن حديثة ارتفع عدد سكانها بصورة مذهلة مثل كيروفسك التي أنشئت عام 1930 وأصبح عدد سكانها أكثر من 50000 شخص الآن، ومدينة إيجاركا التي أنشئت بعد عام 1935 ويبلغ عدد سكانها أكثر من 25000 شخص، ومدينة فركوتا التي أنشئت عام 1943 ويبلغ عدد سكانها نحو أربعة آلاف شخص، ومدينة أوختا، ونجني يانسك وأوست كويجا ... إلخ.
ولا يمثل التعدين كل المستقبل الاقتصادي للعالم القطبي، بل إن مشروع دفع حد الزراعة الشمالي إلى العروض العليا، الذي تعنى به الأجهزة والسياسة الزراعية الاستيطانية السوفيتية على وجه الخصوص، يعطي أملا في إمكان الحصول على بعض الأغذية من داخل العروض العليا، وفي سبيل ذلك تقوم معاهد أبحاث كثيرة بنجاح في الحصول على بذور مؤهلة للنمو في ظل الظروف القاسية الموجودة في المناطق القطبية، تتكيف تماما مع نظام المناخ والضوء القطبي، وقد استطاع السوفيت فعلا القيام بمشروعات زراعية صغيرة في العروض العليا السيبيرية بواسطة هذه البذور المؤهلة، وبعد استصلاح التربة بإزالة الأحجار وحقن التربة بالجير والبكتيريا وتوفير المخصبات.
وقد استطاع السوفيت نقل وإسكان حوالي مليون شخص في مناطق العروض العليا من بلادهم خلال الأعوام الثلاثين الماضية، وقد تم ذلك بخلق بيئة صناعية تستخدم فيها الأشعة فوق البنفسجية والمساكن ذات العوازل والغذاء المطعم بالفيتامينات من أجل مكافحة أثر المناخ القاسي، وهذا دليل على انتصار تكنولوجية كفأة وقوية - لكنها مكلفة بدون شك، وبطبيعة الحال، فإن استخدام هذه الوسائل على نطاق واسع أمر مشكوك فيه حتى الآن ولكنه يتم لأغراض خاصة، ولا ريب أن اهتمام السوفيت أكثر من اهتمام غيرهم من الدول المشاركة في العروض العليا مثل النرويج أو كندا، بسبب كثرة السكان الهائلة بالقياس إلى بقية دول العالم القطبي، وبسبب وجود المساحات الضخمة السهلية والتخطيط الاقتصادي المركزي في الاتحاد السوفيتي.
وعلى هذا النحو الكامل تتكامل لدينا ثلاث مجموعات من الأسباب التي تدعونا إلى تخصيص هذه الدراسة للعالم القطبي والعوالم الشمالية الباردة.
المجموعة الأولى تتركز حول زيادة المعرفة الجغرافية بجزء من العالم كان إلى وقت قريب جدا نطاقا هامشيا، وما زال معاديا للسكن البشري إلى حدود كبيرة، ولعل أقرب المعارف التي تزيد حجما معلوماتنا عن المناخ ودراسات أخرى جيوفيزيقية.
المجموعة الثانية تتعلق بالأهمية الجديدة التي يحتلها العالم القطبي الشمالي اليوم من النواحي الجيوبوليتيكية في مجال الصراع السياسي الدولي الراهن على ضوء التغيرات الحديثة في تكنولوجية الحرب والاستراتيجية.
Неизвестная страница