ولد أنتيغونس، الملقب بالأعور، سنة ميلاد فيليب. ويوصف أنتيغونس بأنه رفيق كل من فيليب والإسكندر (جوستين، الكتاب السادس عشر، 1، 12)، وهو ارتباط يفترض ضمنا اكتسابه أهمية في عهدي الملكين الأرغيين، وإن كنا لا نعرف إلا القليل عن نشاطه السابق؛ ومن ثم فمنزلته بل موطنه الأصلي أيضا غير مؤكدين، وإن كان بعضهم حاول إثبات انتمائه إلى بيرويا شمال نهر هالياكمون في جنوب هيماثيا. لا توجد خيوط تدلنا على منزلته الاجتماعية فيما وصل إلى أيدينا من شواهد على التدريب المهني الذي كان يتلقاه الشباب الأرستقراطي، وأيا ما كانت طبيعة منزلته الاجتماعية، فمن المستبعد تماما أنه كان من بين غلمان الملك نظرا لتاريخ ميلاده، زد على ذلك أن هذا التقليد تبلور رسميا في عهد فيليب. كذلك لم يتلق ابنه الذي عاش حتى بلغ مبلغ الرجال تدريبا في بيلا، بل نشئ بصحبة أبيه في الأناضول التي أرسله إليها الإسكندر سنة 333. يمكن أن نجد أمارة أخرى على منزلته الاجتماعية الأصلية في منصبه القيادي وقت عبور الإسكندر إلى الأناضول؛ إذ أسندت إلى أنتيغونس قيادة المشاة الثقيلة الإغريقية الحليفة، وهو منصب رفيع يقينا لكن ليس في رفعة منصب القيادة في وحدات الجنود المدرعين والخيالة الملكية المقدونية. كل هذه التفاصيل ربما تشير إلى منزلة اجتماعية غير نخبوية؛ ومن ناحية أخرى، ربما كانت زوجته قريبة لفيليب كبنت من بنات أحد فروع السلالة الأرغية. وقد يكشف الجمع بين هذه الخيوط القليلة عن فئة ثالثة من المقدونيين الذين استقطبوا إلى الجهاز العسكري للمملكة المتسعة، وهم أفراد الأسر المقيمة في لب المملكة الذين يستبعد تنافسهم على العرش الأرغي. ومع عدم انتمائهم إلى أصل أرستقراطي، استطاعوا الترقي في المناصب والمنزلة بالزواج وبإثبات جدارتهم وولائهم للملك الأرغي الحاكم. كان معين المعاونين ضيقا طوال معظم التاريخ المقدوني السابق، وكان على فليب أن يفكر تفكيرا إبداعيا في صنف الرجال الذين لا يملكون المهارات فحسب، بل الذين لديهم أيضا أسبابهم الوجيهة ليدينوا بالولاء للقائد العام للجيش. (6) نتائج الإصلاح العسكري
خلاصة القول أن فيليب صاغ هيكلا تنظيميا وتدريبيا فعالا لتلبية متطلبات مملكته الأولية، وهي الدفاع عن قلب المملكة، تليه السيطرة على المناطق المحيطة والعمل الهجومي ضد الجيران المزعجين الأبعد موضعا. كانت الأداة الأساسية جيشا كبيرا جيد التدريب جاهزا للتحرك فور صدور الأوامر. كانت الحاجة تدعو إلى أعداد كبيرة من الجنود، من مشاة عاديين وخيالة متمرسين ووحدات خاصة كرماة النبال، وكانت قيادة هذه الوحدات تحتاج إلى أعداد كبيرة من القادة المدربين جيدا. كانت مركزية القيادة ضرورية لتنسيق الوحدات والمسئولين المعاونين ، ومن دونها كانت المصالح الإقليمية، مدفوعة بطموحات الزعماء المحليين، ستقلص سلطة الحاكم الأرغي الاسمي بسرعة. تحقق أحد جوانب المركزية بتركيز الأنشطة في موضع واحد، فالسفارات وتطوير آلات الحصار وتدريب الضباط المستقبليين وتخطيط الحملات والرقابة على الموارد وحياة الملك وآل بيته الخاصة؛ كلها تركزت في بيلا. وكما تكشف لنا الشواهد الآثارية التي جادت بها بيلا، فإن علينا فيما يبدو إعادة النظر في فكرتنا عن وجود تنظيم سياسي غير مهيكل في جوهره هناك؛ فعلى الرغم من أن التنظيم السياسي المؤسسي لم يكن بعد على شاكلة نظيره الفارسي المعاصر، توجد أمارات واضحة على الهيكلة النظامية، وربما بدأ مسئولو البلاط المقدوني يتولون مناصب إدارية، مثلما جادل بعضهم قياسا على المؤسسات الأوروبية في القرون الوسطى. لكن حتى شواهدنا الضئيلة تشير إلى أن بيلا كانت مقر دواوين الدولة النظامية، كأمانة السر، وتطوير التكنولوجيا العسكرية، والرقابة على تخصيص الموارد. ولا شك أن اتساع الأنشطة في بيلا تطلب إشرافا مستمرا من جانب مسئولين متنوعين مدربين على مهام عملهم، ويملكون الكفاءة لإدارة شئون من تحت أيديهم، ويرجى أن يكون لديهم ولاء.
كان القول الفصل في كل تلك الأنشطة قول الملك، ومع نجاح حملاته صارت لديه الحوافز التي يقدمها للجنود العاديين والقوات النخبوية على حد سواء. وبإنشاء سلم تدريبي للضباط المستقبليين واتخاذ مكان التدريب في بيلا، أقام فيليب أواصر جديدة مع اليافعين الذين يرجون أن يكونوا شخصيات مهمة في أنشطة تبشر بأن تكون مجزية؛ فلم يكن يوجد إلا شخص واحد في أي وقت بعينه يمكنه أن يكون حاكما لدولة لنكستيس أو أوريستيس المستقلة، لكن كان هناك لنكستيون وأوريستيسيون كثيرون يمكنهم التمتع بالترقي في المناصب القيادية المهمة في الدولة المقدونية. كان الملك الأرغي يرجو أيضا ميزة شخصية، وهي أمنه، الذي كان في أحوال كثيرة جدا عرضة للخطر من خلال الاجتياحات العسكرية للمملكة، ومن خلال المؤامرات التي يحيكها أفراد السلالة الأرغية الآخرون، ومن خلال طموحات حكام المناطق التي كانت ذات يوم ممالك مستقلة.
يتجاهل مثل هذا التأكيد على أهمية القيادة الملكية المؤسسات الإدارية الأخرى الموجودة في معظم الدول؛ ألم تكن هناك هيئة أو مؤسسة سياسية أخرى ذات شأن كبير في حياة مقدون الإدارية بجانب القيادة الشخصية وجمعية الجيش؟ لا يوجد ما ينم عن وجود مدونة قوانين مكتوبة تنظم العدالة وتطبيقها، ويبدو أن القانون العرفي في صورته الشفهية كان يحدد الحقوق والمسئوليات.
ألم يكن هناك مجلس استشاري؟ لا يوجد ما ينم عن وجود مجلس رسمي طوال تاريخها المبكر، وإن كان المرجح أن مجلسا غير رسمي لعب دورا في اتخاذ القرارات. وربما تكون النظائر الهوميرية من جديد مفيدة لنا في هذا الصدد؛ فمثلما تشاور أجاممنون مع مختلف الملوك، كذلك تشاور فيليب مع كبار ضباطه، من أمثال أنتيباتروس وبارمنيون وأنتيغونس، لتنسيق الحملات أو تفويض المسئوليات. وتتحدث المصادر التي بين أيدينا عن مشاورات من هذا القبيل جرت بين الإسكندر وضباطه، ومن أشهرها مناقشة عرض داريوس الذي تضمن تقديم تنازلات بعد النجاحات المقدونية المتكررة:
عندما ذكر أمر هذه التنازلات في ملتقى للصحابة، يقال إن بارمنيون قال للإسكندر إنه لو كان الإسكندر لرضي بتلك الشروط لينهي بذلك الحرب دون مزيد من الخطر؛ فأجاب الإسكندر بارمنيون بقوله إنه لو كان بارمنيون لفعل ذلك بالضبط، لكن لأنه الإسكندر فسيرد على داريوس على نحو ما بين. (آريانوس، الكتاب الثاني، 25، 2)
بمعنى أن الإسكندر لم يقبل الشروط المعروضة.
كان المشاركون في هذه الجلسات ينتمون على الأرجح إلى صحابة الملك المقربين، وإن كان هذا لا يعني أننا نقول بوجود مجموعة ثابتة من الصحابة يشكلون المجلس، فالرجال الأقرب إلى الملك سيكونون غالبا في أماكن بعيدة يؤدون مسئوليات أخرى موكلة إليهم. غير أن الأفراد الذين هم موضع أكبر ثقة من الملك كانوا يشكلون قوة متنفذة، وكان الإسكندر يدين إلى حد كبير بالفضل في توليه الملك إلى الدعم الذي قدمه له صحابة فيليب .
تكشف نجاحات مقدون أثناء عهدي فيليب والإسكندر عن أحد جوانب مبتكرات فيليب، وقد عبر جاك إيليس عن الجانب الآخر لتلك النتائج تعبيرا دقيقا وجيدا بقوله:
لكن لو كان الجيش أداة الوحدة الجديدة ومظهرها في آن واحد، فمن الضروري أكثر حتى من ذي قبل أن تكون الأهداف العسكرية دائما نصب الأعين، والأهم من ذلك تحقيق النجاحات العسكرية خشية أن يوجه الجيش الطاقات المكتشفة حديثا ليعنى بشئون نفسه وبالدولة. بمعنى أنه بالرغم من أن همة فيليب وفطنته بلورتا تلك الثورة على الأقل، فإنه كان مقيدا - شأنه شأن أي شخص آخر - بالنتائج التي ترتبت عليها، أي كان يمتطي ظهر الوحش الذي أطلق سراحه. (الصفحة 9)
Неизвестная страница