لدى اغتيال أرخيلاوس سنة 399، قوض الضعف المقدوني، مقرونا بالصراع السريع الوتيرة بين الدول الإغريقية على الهيمنة، قدرة بيرديكاس على البقاء وجهود أرخيلاوس لإحلال الاستقرار. وبعد هزيمة أثينا سنة 404 وتفكيك الإمبراطورية الأثينية، تمخضت دورة من المحاولات التي بذلتها الدول الكبرى لإعادة إنشاء إمبراطورية إغريقية، عن اضطرابات عارمة صاحبها تدمير الحياة والممتلكات؛ مما أضعف في نهاية المطاف أساس الحياة الإغريقية الكلاسيكية، وهو وضع عضد جهود فيليب الثاني. لكن في العقود الأربعة الأولى من القرن الرابع، كاد الصراع ينهي وجود مقدونيا المستقل.
كانت إسبرطة وطيبة وتيساليا وأثينا (بعد استعادتها استقلالها وقوتها) أهم المتنافسات على الهيمنة الإمبريالية؛ فاتخذت إسبرطة زمام المبادرة مبكرا بصفتها رأس الحلف البيلوبونيزي المنتصر في محاولاتها القضاء على الهيمنة الأثينية. كانت السياسات الإسبرطية موجهة في جوهرها إلى تحويل الحلفاء/الرعايا الأثينيين السابقين إلى حلفاء/رعايا إسبرطيين. بالإضافة إلى ذلك، لم تظهر إسبرطة إلا قليلا من التقدير لحلفائها أثناء الحرب البيلوبونيزية. استقطب أمينتاس الثالث، الذي خلف أرخيلاوس في نهاية المطاف، إلى المجال الإسبرطي من خلال البلدات الساحلية الإشكالية المطلة على الخليج الثيرمي؛ إذ مع توطد جهود الكونفيدرالية المستقلة في شمال بحر إيجة، استقطبت البلدات والدول الصغيرة في تلك المنطقة إلى تحالف خالكيذيكي متسع مركزه في أولينثوس. رفضت مطالبة أمينتاس بإعادة البلدات الواقعة في مقدونيا الدنيا إلى سيادته؛ ومن ثم اتجه إلى إسبرطة طلبا للعون. نجحت الحرب على التحالف، على الأقل مؤقتا، في هدم روابطه واستعادة مقدونيا الدنيا إلى أمينتاس.
كانت تيساليا أقرب إلى الديار من إسبرطة، وكان شخص يدعى جيسون من دولة فيراي قد وطد نفسه قائدا أعلى، أو «تاجوس»، لتيساليا ومعها إبيروس. ويبدو أن هذا المنصب كان يستخدم عند الحاجة إلى جيوش المناطق الأربع جميعها، وكان التاجوس قائد هذا الجيش الموحد للفترة اللازمة. ومع صيرورة الحرب ضرورة تمارس طوال العام، اكتسب التاجوس التيسالي مكانة أرفع ودائمة. ربما أثار جيش جيسون الهائل - المؤلف من 20 ألف فرد مشاة ثقيلة و8 آلاف فارس و6 آلاف مرتزق فضلا عن المناوشين - إعجاب أمينتاس بدرجة كافية لإقامة تحالف معه، لكن لدى مقتل جيسون سنة 370، انقلب توازن القوى؛ إذ تدخل الإسكندر الثاني، خليفة أمينتاس، في تيساليا مستوليا على مركزين كبيرين فيها. ثم انسحب الإسكندر بدافع عدم ثقته على ما يبدو في القوة المقدونية لدى ظهور جيش طيبي في أحد هذين المركزين، وواجه مشكلات مع أبناء الأسرة الحاكمة في الديار، وكانت خطيرة بما يكفي لتؤدي إلى مقتله سنة 367؛ مما أطلق بدوره العنان لتحالفات معقدة جديدة؛ إذ كما نوهنا في الفصل الثالث تحالفت أمه مع بطليموس، وهو مقدوني بارز ولعله كان أحد أبناء أمينتاس الثاني. ربما كانت الآصرة بينهما مدفوعة بالغرام أو الطموح إلى النفوذ الشخصي أو جزءا من مؤامرة أجنبية، وكل ما نعرفه أن الثنائي التجأ إلى أثينا طلبا للدعم.
كان كل من أثينا وطيبة عضوا في حلف يثير الإعجاب؛ إذ كانت طيبة قد أسيئت معاملتها في نهاية الحرب البيلوبونيزية على يدي حليفتها إسبرطة، فتمخض فرض حامية إسبرطية عليها سنة 382 عن غضب وتصميم كافيين لتحرير المدينة في 379-378، وتمخضت الحرية بدورها عن قوة أعظم تجلت في الانتصار على الإسبرطيين سنة 371، فدفع ذلك النجاح طيبة إلى طموحات أعظم من بينها مقدونيا؛ فأبرم القائد الطيبي العبقري بيلوبيداس تحالفا مع مقدونيا، ولضمان احترام المعاهدة، أخذ رهائن ضمانا لحسن سلوك الأسرة المالكة المقدونية، ومن أبرز هؤلاء الرهائن فيليب أخو الملك الحاكم. مكث فيليب كرهينة في طيبة نحو ثلاث سنوات في أوج القوة الطيبية التي كان إصلاح تشكيل المشاة الثقيلة عنصرا حاسم الأهمية فيها.
كانت أثينا بالطبع لاعبا في التنافس ذاته على الإمبراطورية؛ فإذ أسست الدولة حلفا بحريا ثانيا يملك سيطرة أوسع على قوى أثينا القسرية، استقطبت تحت مظلة واحدة أعضاء سابقين في الحلف الديلوسي وأعضاء جددا أيضا، وأبرزهم طيبة. كان غرضها القضاء على السيطرة الإسبرطية على الدول-المدن الأخرى للسماح لهذه الدول باستعادة حريتها وحكمها الذاتي. ولا بد أن الأثينيين كانوا يقدرون قيمة التحالف مع أمينتاس الثالث الذي أبرم في منتصف سبعينيات القرن الرابع؛ لأنه أتاح الوصول إلى ذلك المصدر الحيوي للخشب. جدد ذلك التحالف في منتصف الستينيات عندما انتقل ملك مقدونيا إلى بيرديكاس الثالث ابن أمينتاس الثاني، وإن كانت الصداقة بين أثينا ومقدون قد تدهورت في غضون بضع سنوات.
كان على بيرديكاس إذن أن يكون جاهزا للتعامل مع أحلاف خالكيذيكي وتيساليا وطيبة وأثينا القوية، إما بما يكفي من قوة مسلحة وإما بالدبلوماسية الذكية. لم يكن بوسعه كذلك تجاهل التهديدات المستمرة النابعة من الجيران الشماليين والغربيين والشرقيين، لكنه لم يعش طويلا بما يكفي لمواجهة كل أعداء مقدونيا؛ إذ أدى غزو إليري سنة 360 أو 359 إلى مقتله في ساحة المعركة ومعه 4 آلاف من جنوده. (1) علاقات فيليب مع الإغريق
كان فيليب مرشحا قويا للملك الأرغي لدى موت أخيه بيرديكاس، ورغم أن جمعية الجيش نادت به ملكا ورغم براعته في التخلص من المنافسين الآخرين على السلطة، فقد ورث ضمن ما ورث المجموعة المعقدة من العلاقات مع العالم الإغريقي التي اقتفينا أثر تطورها من أوائل القرن الخامس إلى منتصف القرن الرابع.
نعرف أن فيليب حقق نجاحا غير عادي، لا في تأمين ملك مقدون والاحتفاظ به فحسب، بل في توسيع حدوده من البحر الأدرياتي إلى البحر الأسود. صار العالم الإغريقي خاضعا لهيمنة فيليب، وضم رسميا إلى مقدون في حرب فيليب ضد الفرس قبل موته. يبرهن تحقيق هذه الإنجازات على فهم عميق لأساليب جيرانه من جهة الجنوب، وقدرة على توظيف الأدوات والظروف والطموحات الإغريقية لمصلحة مقدونيا.
في إطار التعامل مع هؤلاء الجيران، لا يدهشنا أن اهتمام فيليب الأول تركز على الأراضي الملاصقة لمقدونيا (تيساليا وشبه جزيرة خالكيذيكي)، وأنه انتهج نهجا مألوفة لدى الدول الإغريقية؛ أي استخدام القوة العسكرية والتحالف. فبعد الاستيلاء على بوتيديا سنة 356 على سبيل المثال، سلمها إلى الحلف الخالكيذيكي الذي كان آنذاك متحالفا معه. لكن كما رأينا كان لدى دول إغريقية أخرى اهتمام قوي بهذه المناطق، وكانت دول وسط اليونان تصوب أعينها إلى تيساليا، وكان الأثينيون ينظرون إلى خالكيذيكي وأجزاء أخرى من شمال بحر إيجة. وعلى الرغم من أن فيليب تحالف اسميا مع أثينا بموجب معاهدة، فإنه استعاد ميثوني من السيطرة الأثينية سنة 354. ولدى اكتسابه موطئ قدم على الأقل خارج الحدود المقدونية الحالية، استخدم أداة أخرى من أدوات الدول الإغريقية بتأسيسه مستوطنات جديدة أو إعادة تأسيسه بلدات قائمة كمراكز مقدونية؛ ففي تيساليا صارت البلدة التي تسيطر على المدخل الشمالي الاستراتيجي المؤدي إلى الممر في تيمبي مستوطنة مقدونية، وأما كرينيدس - التي تتمتع بقيمة عظيمة بفضل ثروتها المعدنية، وكذا موقعها شرق خالكيذيكي مباشرة - فأعيد تأسيسها باسم فيليبوي، وأقحم فيليب نفسه في المناطق التي يدرك قيمة هيكلها الدستوري لخدمة أغراضه، فاستحوذ في تساليا على منصب التاجوس، أو القائد العسكري الأعلى.
كان لمعرفته بالوضع في اليونان معرفة مباشرة قيمة عظيمة في تشكيل الاستجابة المقدونية لذلك الوضع. كان من أهم أولويات فيليب توسيع الجيش وإعادة تنظيمه، وعلى الرغم من ضرورة استخدامه قواته ضد مجموعة متنوعة من الشعوب بتكتيكاتها المتباينة، كان قد رأى بعينه نجاح الإصلاحات الطيبية أثناء احتجازه ثلاث سنوات هناك. ومن المرجح كثيرا أنه رأى المشاة الثقيلة الإغريقية وقادتهم أثناء العمليات التي جرت قرب الأراضي المقدونية أو حتى داخلها في شبابه إبان حكم أبيه الملك أمينتاس. لا شك أن إصلاحات فيليب العسكرية تجاوزت التطورات الطيبية، ومع ذلك انبنت على أساس سبق أن مكن الطيبيين من هزيمة الجيش الإسبرطي الذي كان يوما لا يقهر، ومن بناء حلف واسع يضم أعضاء يغطون معظم العالم الإغريقي الجنوبي.
Неизвестная страница