لعل الشيء الأكثر وضوحا هو الموارد الطبيعية التي كانت تحتوي عليها مقدونيا؛ أي معادنها وأخشابها وأمطارها وأنهارها وسهولها الخصيبة وأسماكها وطيورها وحيواناتها البرية. ذهب جاريد دايموند إلى أن سكان المناطق التي تتمتع بوفرة في الموارد الطبيعية يملكون ميزة كبيرة في إنشاء ثقافات ناجحة. لكن الهيمنة على هذه الموارد في مقدونيا لم تتأت دون مجهود جاد، وكما رأينا فإن طبيعة المنطقة المادية تمخضت عن أناس أشداء. كان استغلال الموارد الطبيعية والسكان، وإنشاء دولة مستقلة ثم صيانتها، يعني الهيمنة على الأراضي الجبلية والمياه الوفيرة الجارية في الأنهار الطويلة، وكل من هذه الجبال والأنهار كان يقسم المنطقة إلى قطع أصغر. كانت القدرة على تحويل هذه الملامح إلى مزايا ضرورية لبزوغ دولة فعالة، وسيعرف القائد الناجح أهمية هذه القدرة، ليس فيما يتعلق بالقوة الاقتصادية فحسب، بل أيضا فيما يتعلق بتحسين مهارة جيشه العسكرية. وسنمحص قيمة هذه القدرة في الفصل الأخير.
دارت رحى المعارك التي خاضها المقدونيون وانتصروا فيها تحت قيادة الإسكندر عند أنهار؛ فكانت المواجهة الأولى عند نهر جرانيكوس، الذي عبره المقدونيون ثم ارتقوا الضفة المقابلة للاشتباك مع العدو. وفي المواجهة الثانية، وتحديدا في إيسوس، قاد الإسكندر قواته عبر نهر بيناروس للاشتباك مع الجيش الفارسي. وأوقع الهزيمة بالزعيم الهندي بوروس وجنوده على ضفاف نهر هايداسبيس (نهر جيلوم حاليا) المترع بمياه الأمطار الموسمية. وبعد ذلك النصر، شق المقدونيون طريقهم جنوبا على ضفاف نهر السند ثم استكشفوا مصبيه والخط الساحلي في قوارب أمر الإسكندر ببنائها لهذا الغرض. كانت المعرفة بأهمية الممرات المائية لأغراض الاتصال والتوحيد ناتجا ثانويا ثمينا من نواتج إرث الإسكندر المقدوني.
علمته مقدونيا أيضا أحسن تعليم كيف يتعامل مع الجبال، وهو ما كان ضروريا للحملة التي شنها في آسيا الوسطى؛ فبتعليمات من الإسكندر، استولى المقدونيون على قلاع يفترض أنها حصينة كسوقديانا في باخترا (آريانوس، الكتاب الرابع، 18، 5-19، 4) وصخرة أرونوس، وهي موقع اشتهر بصد محاولات هرقل (آريانوس، الكتاب الرابع، 30، 1-4).
كان الزعماء المقدونيون يثمنون قيمة من استطاعوا إنجاز هذه المآثر، وهم قلب قواتهم المسلحة. كانت الضغوط على نواة المملكة مستمرة وموجودة على كل الحدود، وكان الجنود المدربون لصد الإليريين والتراقيين والإغريق والغارات الأخرى - المأمول التغلب عليهم - مفتاح سلامة أراضي المملكة. نشئ هؤلاء الجنود الواعدون في ظروف صقلت لياقتهم البدنية، كرعاة يسوقون قطعانهم من مراعي الشتاء الوطيئة إلى المراعي الصيفية في الجبال، وصيادي وحوش برية، ومزارعين؛ ومن شأن أمثال هؤلاء الرجال أن يكونوا محاربين أشاوس، والملك الحكيم يقدر قيمة هؤلاء الجنود.
سيكون حريا به أيضا أن يقدر موقع مقدونيا الوسط؛ أي قربها من الآخرين ومواطن جذبها إياهم . كانت العزلة مستحيلة؛ ومن ثم فاكتساب دراية بالأعداء المحتملين سيكون ميزة مهمة. وعلى نحو ما أسلفنا البيان، شاهد الإسكندر توسع رقعة مقدونيا وتفاعلها المتزايد مع الشعوب الأخرى. ويروي بلوتارخس حديثا دار بين الإسكندر الصبي ورسل الملك الفارسي أثناء غياب الملك فيليب (الإسكندر، الكتاب الخامس، 1-3)، وعنيت أسئلته بشبكات الطرق وشخصية الملك وعدد الجنود الفرس. وحتى إن كانت هذه الرواية غير دقيقة، فإن بيلا كانت قد تحولت إلى خلية للنشاط الدولي أثناء طفولة الإسكندر، وهكذا امتد عالمه إلى ما وراء النطاق المقدوني التقليدي.
لا شك أن هذه معرفة ضرورية لشخص يجب عليه التعامل مع ثقافات أخرى. ومن ناحية أخرى، المبالغة في البعد عن «طريقة الحياة المقدونية» كانت تنطوي على خطورة محتملة، ولتنظر إلى مشاعر كلايتوس صاحب الإسكندر؛ فوفقا لرواية آريانوس، اغتم كلايتوس لتبني الإسكندر طرقا أجنبية، وفي مرحلة معينة عندما كان الثناء يكال للملك، أبدى رفضه ذلك الثناء، إيمانا منه بأن «أفعال الإسكندر لم تكن عظيمة ومعجزة إلى الدرجة التي كان يصفها بها البعض، وأنها لم ينجزها رجل واحد بمفرده، بل كانت في أغلبها أعمال المقدونيين» (الكتاب الرابع، 8، 4-5). بل أبدى بلوتارخس أيضا صراحة أكبر حين روى عن كلايتوس قوله بخطأ السخرية من المقدونيين في حضور البرابرة والأعداء؛ لأن المقدونيين يظلون رجالا أرقى بكثير من الأعداء الأجانب على الرغم من تفوق هؤلاء الأعداء على بعض المقدونيين (الإسكندر، 50). وقتل كلايتوس بسبب هذه الاتهامات على يد الإسكندر نفسه.
كان استخدام الموارد الطبيعية التي حبيت بها المنطقة يتطلب معرفة معينة وحكمة في تخصيصها، مثلما كان يتطلب التفاعل بين المقدونيين وغيرهم نوعا آخر من التوازن الدقيق من جانب الملك المقدوني.
الفصل الثالث
نسبه الأرغي
كان ملك مقدونيا مستقرا في أفراد سلالة واحدة وهي الأرغيون. وينتسب الإسكندر إلى ملوك أرغيين يمكن تتبع نسبهم بشيء من الدقة إلى أواخر القرن السادس. كان أبوه فيليب أرغيا، وانتمت أمه أوليمبياس إلى هذه السلالة بالزواج؛ ومن ثم كانت الصلة بالميلاد عاملا جوهريا في تحديد كل من يتولى عرش البلاد. كان منصب الملك ، بمجرد أن يضمن، يجلب مزايا غير متاحة للآخرين، لكنه كان يتمخض أيضا عن تهديدات خطيرة تحيق بالاحتفاظ بالسلطة. وإذ نستهل بتاريخ العشيرة الأرغية وطبيعتها، سنلتفت إلى الطريقة التي استعمل بها فيليب الثاني السلطة الملكية ودلالة إنجازاته لابنه وخليفته، ثم إلى الشق الآخر من نسبه؛ إذ بحلول زمن أمينتاس الثالث أبي فيليب، لم يكن دور الملكة الأم بالشيء الهين، ولم تكن أوليمبياس استثناء من هذا. (1) السلالة الأرغية
Неизвестная страница