ثم صمت الفتى صمتا طويلا، ولكن دموعه الغزيرة المنحدرة تحدثت عن نفسه الحائرة المضطربة أصدق الحديث.
هنالك نهض الراهب الشيخ فضمه وقبله وبارك عليه.
6
وبلغ الراهب الشيخ ديره بعد أيام، فإذا الفيلسوف الفتى يستقبله مع المستقبلين حفيا به مشوقا إليه، يسأله في لهفة وحنان، وفي محبة وبر عما احتمل من مشقة، وما صادف من عقبة، وما لقي من عناء في سفره البعيد. والراهب يجيبه هادئا مطمئنا وادع النفس مستريح القلب، لا يظهر دهشا لمكانه في الدير، كأنه كان مستيقنا أنه سيلقاه حيث يلقاه الآن. حتى إذا استقر به مكانه، وخف إلحاح أصحابه عليه بالتحية والسؤال، وفرغ لصديقه الفتى شيئا، سأله: كيف انتهيت إلى هذا الدير؟ وكيف نجدك فيه؟
قال الفتى: لقد أحسست منك يا أبت ترددا في اصطحابي، وإحجاما عن مرافقتي، وإشفاقا من أن يظن بك صاحباي أنك قد خطفتني من بينهما خطفا، كما كنت تقول، فلم ألح عليك، بل لم أعد عليك طلب الإذن في صحبتك. وإنما تلقيت ضمك لي وتقبيلك إياي، وهذه البركة التي مستني بها، تلقيت هذا كله منك على أنه قبول لما طلبت إليك، قبول صدر من قلبك إلى قلبي، وانتقل من نفسك إلى نفسي، وإن لم يبلغه لسانك إلى أذني. ومن هنا أظهرت المضي فيما كنت ماضيا فيه من سخط على قيصر، ورغبة في الهجرة، وبحث عن الأرض التي أهاجر إليها. وذهبت من مساء ذلك اليوم إلى قصر الحاكم، فلقيته ولقيت «أندروكليس» ولقيتك معهما وسمرنا فيما سمرنا فيه، وافترقنا حين تقدم الليل، لم يحس صاحباي أني تقدمت خطوة فيما كنت أفكر، أو تأخرت خطوة عن الموقف الذي كنت قد انتهيت إليه. ولكن أمري كله كان قد دبر بين أول النهار وآخره. ولما فارقتكم لم أعد إلى بيتي إلا لألم به إلمامة قصيرة. ولما تلقيت الصبح من غد تلك الليلة كنت قد فصلت عن المدينة منذ ساعات. ثم لم يرتفع الضحى، ولم تزل الشمس، حتى كنت بعيدا عن إقليم صاحبي. وما أدري بعد ماذا كان من أمره وأمر «أندروكليس»، حيث علما أني قد فارقت المدينة فراق من لا يريد أن يعود إليها. وما أدري إلا أنهما قد ضاقا بهجرتي هذه ضيقا شديدا، فإنهما يحبانني ويأنسان إلي، ويحرصان الحرص كله على صحبتي.
وقد كنت أريد أن أجزيهما برا ببر وإحسانا بإحسان، ولكن ماذا أصنع وقد فرقت بيننا طبائعنا وأمزجتنا على هذا النحو الذي رأيت! على أني قد تركت ورائي من الأمر ما ينبئهما بأني كنت لهما صديقا، وعلى مودتهما حريصا فقد جعلت إلى حاكم المدينة تدبير ثروتي وإنها لعريضة، والإشراف على أموالي وإنها لضخمة، وتقدمت إليه في أن يقوم في ذلك مقامي ثلاثة أعوام! فإن رجعت إلى المدينة فذاك، وأنا زعيم أن أعرف له حسن خلافته لي فيما تركت ورائي، وإن لم أرجع، وما أراني راجعا، فإن مالي يقسم أثلاثا: له الثلث، ول «أندروكليس» الثلث، والثلث الأخير لهذا الدير.
وقد حملت معي ما استطعت حمله من مال وجوهر، ومن عرض ورقيق، فقدمته إلى رئيس الدير ليبر به من تعود أن يبرهم من الضعفاء والبائسين والمحتاجين إلى المواساة والعون.
وأقمت في هذا الدير أنتظر عودتك لأستشيرك وأستخبرك، وأسألك عما أصنع وعما أريد؛ فإني لا أدري ماذا أصنع، ولا أعرف ماذا أريد.
قال الراهب الشيخ في صوت يملؤه الحنان والحب: لقد تعجلت نفسك يا بني، وكنت خليقا أن تستأني وتصطنع الريث! فإنك صائر آخر الأمر إلى قرار ترضاه وتطمئن إليه. ولو قد أقمت بين أهلك ومالك وصديقك لما أخر ذلك ما قدر لك من الانتهاء إلى ما يطمئن إليه قلبك الذي لا بد له من أن يطمئن، وإلى ما تستريح إليك نفسك الحائرة، ويخرج به عقلك من الشك إلى اليقين.
إنك يا بني لست من هؤلاء الناس الذين تفرض عليهم الحيرة ضربة لازب، وينفقون أعمارهم في الشك الذي يهلك النفوس، أو الذي يقلقها ويعنيها، أو الذي يضطرها إلى التهاون والاستمتاع باللذات. لست من هؤلاء في شيء؛ ولكنك من الذين فطروا على الحزم والعزم، الذين لا يشكون إلا ليستيقنوا، ولا يقلقون إلا ليطمئنوا. فأقل عليك للوم، واطمئن إلى الراحة في هذا المكان الهادئ البعيد، وأرسل نفسك على سجيتها، ودعها تفكر ما وسعها التفكير، ودعها تشك ما امتدت لها أسباب الشك؛ فلست أخشى عليها من هذا كله شيئا.
Неизвестная страница