قال «أندروكليس»: وإذا؟
قال «كلكراتيس»: وإذا فلست أدري. لقد دعاني الموت فأبيت أن أستجيب له، وأنا حريص أشد الحرص على ألا أوذيكما. وما أرى إلا أن الأرض واسعة، والفضاء عريض، وأن في الهجرة عنكما والزوال عن هذا الإقليم ما يرضيني وإن شق علي، وما يؤمنكما وإن كان فراقي عليكما عسيرا.
قال «أندروكليس»: تريد أن تزول عن هذا الإقليم، وتهاجر من هذه الأرض! ولكنك تعلم أن أمر قيصر ليس مقصورا على هذا الإقليم، ولا موقوفا على هذه الأرض. فأنت إذا تريد أن تتعرض للأذى أو للموت على ألا يأتيك الأذى والموت من يد صديقك.
قال «كلكراتيس»: فإني لا أريد الموت، ولا أرغب في الأذى، ولا أهاجر من أرض قيصر إلى أرض قيصر، إنما أزول عن ملك قيصر كله.
قال «أندروكليس»، وقد أخذه الدهش والحزن: تزول عن ملك قيصر، وتلجأ إلى أرض البرابرة، وتدع حضارتنا وعاداتنا وتراثنا وما في حياتنا من نعيم وخفض، إلى حياة مجهولة، وقوم مجهولين، وغربة ما ندري ماذا تضمر لك من الأخطار! فأنت تريد إذا أن تسلك سبيل أولئك الفلاسفة من اليونان الذين لجئوا إلى عدونا من الفرس، وأتاحوا لكسرى ما كنا نحتكره من العلم والفلسفة والمعرفة، وأتاحوا له قوة لم يكن يملكها، وقدرة على حربنا والكيد لنا والظهور علينا لم يكن له منها حظ.
قال «كلكراتيس»: ما ألوم أولئك الفلاسفة الذين فروا بعقولهم إلى أرض عدونا من الفرس، فربما كان العقل آثر من الوطن، وآثر من الصديق، وآثر من الناس والأشياء جميعا.
ولكن هون عليك! فلن أسلك طريق أولئك الفلاسفة إلى بلاد الفرس؛ لأني لا أريد أن أخرج من رق قيصر لأدخل في رق كسرى، وما أريد أن أفر من دين المسيح لأكره على دين المجوس! إنما أريد أن أهاجر إلى أرض لا سلطان فيها، وليس لأحد عليها ملك. إلى أرض لا يكره الناس فيها على ما لا يحبون. إلى أرض لا أكون فيها رعية ولا سوقة، وإنما أكون فيها ملكا.
ثم رفع إلى صديقه نظرة حزينة وقال: لا يعجلك الدهش عن الاستماع لي والفهم عني! فإني لا أهرب من ملك قيصر لأفرض ملكي على الناس. ومن لي بالملك وأسبابه! إنما أريد أن أكون ملكا لنفسي، لا أملك أحدا، ولا يملكني أحد.
قال «أندروكليس» وقد رد إلى هدوئه فأغرق في الضحك: فأنت تريد أن تهاجر إلى الصحراء، وأن تكون راهبا فيها من رهبان «دينوزوس»! رأي طريف لا أرى به بأسا. إن للنصرانية رهبانها الذين يقيمون في الأديار والصوامع، في المدن وفي أطراف الصحراء. فأنت تريد أن تجعل للوثنية رهبانها وأديارها وصوامعها.
رأي طريف لا أرى به بأسا. لقد أخذ النصارى عن الوثنية علمها وفلسفتها. فما للوثنية لا تأخذ عن النصرانية نسكها ورهبانيتها!
Неизвестная страница