ولكني تبعته لأرى ما يكون من شأنه، فإذا هو لا يقبض هذه الأبل إلا ليرسلها هديا إلى هذا البيت، الذي لم يرد أن يتحدث إلى الملك فيه. ويمضي هذا الشيخ إلى قومه من قريش، فيأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب وعلى رءوس الجبال هربا من الملك، وإشفاقا من معرة الجيش، ويقوم أمام بيته هذا الذي يعظمه وقد أخذ بحلقة بابه، ومن حوله نفر من قومه ويقول كلاما حسن الانسجام شديد الوقع في النفس، سمعته فأحببته ولكني لم أفهمه، على أني كنت قد أخذت أحسن هذه اللغة. ثم يرسل حلقة الباب، ويمضي مع من كان يصحبه من قومه فيحتضن في شعب من الشعاب. وأنظر أنا إلى هذه المدينة فإذا هي قد خلت من أهلها، وقامت بيوتها هادئة ساكنة، يظلها حزن عميق فيه هيبة وجلال. قامت يظلها هذا الحزن، ولكني لم أكن أرى في هذا الحزن خوفا ولا إشفاقا من معاول الهادمين. وأصبحنا وقد أمر الملك بدخول المدينة، فيهم الجيش أن يتحرك وفي مقدمته فيل عظيم، ولكني أرى دليلنا نفيل بن حبيب الخثعمي يدنو من الفيل فيأخذ أذنه ويسر فيها كلاما، ثم يرسلها ويشتد هاربا في الجبل.
وتثير حركة هذا الرجل في نفسي شيئا من العجب، فما علمت أنه يعرف منطق الفيلة، وما علمت أن الفيلة تعرف منطق العرب. عجبت، وليت عجبي لم يتجاوز هذه القصة، ولكني رأيت بعد ذلك ما يقضي على كل عجب: رأيت بعد ذلك أشياء ما قدرت قط أنني سأرى بعضها. رأيت بعد ذلك أشياء وددت لو لم أرها قط.
وإني على ذلك لسعيد أشد السعادة، مغتبط أشد الغبطة لأني رأيتها، فهي التي هدتني إلى الحق، وهي التي كشفت عن نفسي الغطاء. رأيت الفيل قد برك، حتى إذا دنا منه ساسته لينهضوه نهض معهم، حتى إذا وجهوه إلى مكة برك من جديد. ويجد ساسته بعد ذلك في إنهاضه فلا يبلغون منه شيئا، يحثونه ويؤذونه ويضربونه، ويبلغون به أقصى ما يهيج الفيل فلا ينهض ولا يهم بالنهوض. حتى إذا أداروا رأسه نحو الشام أو نحو اليمن أو نحو الشرق نهض ومضى مهرولا، فإذا أداروا رأسه نحو مكة برك ولم يتقدم أمامه إصبعا. ونحن ننظر إلى هذا وقد ملأنا العجب وأخذ الدهش من نفوسنا كل مأخذ، وبدأ الخوف يلعب بقلوبنا، وبدأ الذعر يطلق بعض الألسنة بالرغبة عن دخول المدينة والانصراف عن هذا البيت. وإنا لفي ذلك ننظر إلى الساسة وهم يعالجون الفيل، وإذا الجو يظلم شيئا فشيئا، وإذا سحاب كثيف يبدو لنا من بعيد، قد أقبل إلينا مسرعا من ناحية البحر، فلا نكاد نطيل النظر إليه حتى نتبين، ويا هول ما نتبين! لسنا نرى سحابا كالسحاب، ولا غماما كالغمام، وإنما نرى سحابا حيا يخفق بأجنحته خفقا، ويبعث منظره في نفوسنا روعا يخرجنا عن أطوارنا وينتهي بنا إلى شيء يشبه الذهول. إني لأرى الآن السحاب حين كان يقبل علينا أسرابا من طير صغار، لها مناقير الطير وأكف الكلاب؛ حتى إذا دنت منا أخذت تحصب الجيش بحجارة دقاق كانت تحملها في مناقيرها وأرجلها. ولم تكن هذه الحجارة تبلغ دقة العدسة ولا عظم الحمصة، وإنما كانت شيئا بين بين، وكانت على دقتها لا تمس شيئا إلا هشمته تهشيما، ولا تمس رجلا إلا ألقته صريعا. وسلوا ما شئتم عن خوف الخائفين وذعر المذعورين، وانصراف أصحاب الفيل عن الفيل، وتحول الجيش عن مكة إلى غيرها من الوجوه جادا في الهرب، وهذه الأسراب من الطير تتبعه، تحصبه بهذه الحجارة، وتملأ الجو من حوله بصياح مخيف.
ولست أدري كيف انتهى أمرنا، ولا كيف نجونا من هذه الطير. ولكني أراني مجدا في الهرب، ومن حولي قوم يجدون مثلي في الهرب وقد حملوا رجلا مريضا سيئ الحال. حتى إذا انقطعت أصوات الطير، ونظرنا فلم نر في السماء شيئا، أخذت أسأل عن نفسي وعمن حولي وعن الجيش، وأخذت أسأل عن هذا المريض الذي أراه محمولا يتأذى، فإذا هو أبرهة، قد مسه حجر من تلك الحجارة فصرع، وظهر على جسمه بلاء عظيم، وأخذت أجزاء جسمه تتساقط قليلا قليلا، لا يسقط جزء منها إلا تبعه صديد منكر قبيح. كم تأذى هذا الرجل! وكم احتمل من ألم في نفسه وجسمه! وكم ذاق من مرارة الندم ولذع الحسرة واللوعة! إني لأراه حين بلغنا صنعاء، وأدخل إلى قصره ليمرض فيه وقد هزل ومسه الضر، حتى لكأنه فرخ من فراخ الطير. على أن حياته لم تمتد في قصره، وإنما ألح الألم عليه إلحاحا شديدا. وأقبل أحد بنيه صباح يوم فنعاه إلي فلما سألت كيف مات، علمت أن صدره انفجر عن قلبه انفجارا.
وكان حديث الشيخ قد ملك على هؤلاء السمار نفوسهم وقلوبهم، فأغرقوا في شيء من الوجوم لم يحسوا معه أن صاحبهم قد قطع الحديث واندفع في تفكير عميق بعيد. ولست أدري كم أنفقوا من الوقت في هذا الوجوم الصامت، ولكني أعلم أن رجلا منهم شابا لم تكن قد تقدمت به السن بعد، خرج من هذا الصمت وأخرجهم منه حين قال بصوت متهدج تقطعه العبرات تقطيعا: إن لهذا البيت في مكة شأنا! قال الشيخ: نعم! إن لهذا البيت في مكة لشأنا، وإن هذا الشأن هو الذي اضطرني إلى أن أعود من اليمن مسرعا ما وسعتني السرعة، حتى أبلغ مصر وأنتهي إلى الإسكندرية. وأقسم ما حفلت بأهلي ولا بوطني ولا بشركائي في التجارة، ولا أتحت
5
لأحد منهم أن يسألني من أمري عن قليل أو كثير، وإنما فرقت فيهم مالي تفريقا، وحملت منه ما استطعت حمله، ومضيت إلى الشام يحسبني الناس تاجرا يبتغي الربح، وإنما كنت سائحا أبتغي هذا الدير لأدخله، فأخرج من الحياة ولذاتها، ومالها وغرورها، وأفرغ للعبادة وطاعة الله.
وإني لأرجو لو امتدت بي الحياة أن أعود إلى هذا البيت في مكة، لا غازيا ولا باغيا ولا قاصدا إلى شر، بل تائبا ثائبا منيبا مستغفرا من هذا الإثم الذي شاركت فيه. وإلى أن يتيح الله لي هذه الأوبة إلى مكة، إن كان قد قدر لي أن أراها مرة أخرى، فسأقيم معكم ألقى من تلقون من هؤلاء الذين يأتون من مكة ويعودون إليها، فأتحدث إليهم وأسمع منهم، وأنالهم بما أستطيع أن أنالهم به من إحسان.
وأذن مؤذن أن قد آن لأهل الدير أن يأووا إلى حجراتهم؛ فتفرقوا وما في نفوسهم رغبة في سمر ولا ميل إلى حديث، وما منهم إلا من يفكر في هذا البيت الذي أحجم عنه الفيل، ورجمته طير أبابيل، ترمي عدوه بحجارة من سجيل، فإذا هم كعصف مأكول.
الفصل الحادي عشر
Неизвестная страница