هنالك وقف الفتى والتفت وهو يقول: ما رأيت كاليوم دعاء ولا إغراء! وقد اتصل طرفه بوجوه ثلاثة حسان، تشرق بها كوى ثلاث في دار فاطمة بنت مر الخثعمية. قال الفتى: ما خطبكن: قالت إحدى الفتيات: ما خطبك أنت؟ فيم إرقالك على هذا النحو ولم يئن لشباب قريش أن يروحوا إلى أهلهم؟ وفيم تركت أباك وإخوانك وأترابك في المسجد؟ هلا بقيت كما بقوا وانتظرت كما ينتظرون! قال الفتى في صوت فيه دعابة الطامع ويأس المضطر إلى الإسراع: ما أنت وذاك؟ إن أدعهم فلأمر ما. قالت فتاة أخرى؛ إن تدعهم فلتخل إلينا فتحدثنا وتسمع منا ساعة من نهار. قالت ثالثة: هلم يا فتى أقبل، فما هذه ساعة حديث يلقى من الكوى! إن الشمس لمحرقة وإن القيظ لشديد، وإني لأوثر ما كنت فيه من الإرقال آنفا على ما أنت فيه من الوقوف الآن. قالت إحداهن وكأنها تتغنى:
عرج علينا فأقم ساعة
فعندنا إن شئت روح وراح
وهم الفتى أن يأبى، ولكنهن ألححن عليه، ومضين يدعونه ويغرينه حتى استجاب لهن.
وما هي إلا أن دخل الدار وأغلق من دونه بابها، وأقبل الفتيات عليه مبتهجات له رفيقات به: هذه تمسح رأسه، وهذه تمس وجهه، وهذه تأخذ بطرف ردائه، وهو يحاول أن يتقيهن وأن يمتنع عليهن، فلا يجد إلى شيء من هذا سبيلا. وكانت فاطمة الخثعمية أطول هؤلاء الفتيات قامة، وأوسمهن وجها، وأعذبهن حديثا، وكانت على جمالها الرائع وحسنها البارع ذكية القلب، نافذة البصيرة، ضخمة الثروة، تعيش في مكة مترفة ناعمة، من حولها عدد غير قليل من الموالي والأحلاف والرقيق على اختلاف أجناسه وتباين حظوظه من المهارة في الفنون المختلفة التي كان يحسنها الرقيق بمكة في تلك الأيام.
وكانت فاطمة الخثعمية برزة
2
متبدية في مكة بعض الشيء، لا تكره أن تظهر للرجال وتأخذ معهم في ألوان الحديث. وكان شباب قريش يحبون منها ذلك ويكلفون به، ويختلفون إليها إذا كان المساء، فيقولون لها ويسمعون منها حتى يتقدم الليل، وربما أديرت عليهم في الشتاء أقداح من خمر بيسان، وفي الصيف أقداح من زبيب الطائف. ولم يكن عبد الله من هؤلاء الفتيان الذين يألفونها ويختلفون إلى مجلسها. وأين هو من ذلك وإنه لمن قوم حظهم من اللهو ونصيبهم من الاستمتاع بالحياة الفارغة الناعمة ضئيل! وكان عبد الله حديث مكة في هذه الأيام منذ هم أبوه أن يتقرب به إلى الآلهة وفاء بنذره القديم، فأنقذه الفداء من هذا الموت المنكر، كان حديث مكة وحديث نسائها خاصة، يذكرون شبابه الغض الذي كاد يذويه الموت، ويذكرون جماله الفاتن الذي كاد يحتويه القبر، ويذكرون هذا الخفر الجاد الصارم الذي لم يكن يعرف في فتيان قريش، ويذكرون هذه الفتاة السعيدة التي قدر لها أن تكون له زوجا. وكانت فاطمة الخثعمية أكثرهن حديثا عنه، وأعظمهن إعجابا به، وأشدهن شوقا إلى لقائه. رأته يوم الفداء جلدا صبورا مبتسما للموت، لا يظهر على وجهه أثر من آثار الجزع حين كان أبوه يقرع من دونه بالإبل؛ فكانت القداح تأبى أن تخرج إلا عليه. ورأته بعد أن تم الفداء ورفع عنه نذير الموت، فعاد بين أمه وإخوته مبتسما للحياة كما كان يبتسم للموت في هدوء واطمئنان، لا يزدهيه فرح ولا يستخفه طرب، ولا يخرجه عن طوره أمل في الحياة السعيدة والنعيم المقيم.
من ذلك اليوم وقع الفتى من نفس فاطمة موقع قطرة الندى من الزهرة الغضة عند إشراق الصبح، فأحبته وتمنته، وكلفت به وحرصت عليه. وقضت أياما لا تتحدث إلا عنه، وليالي لا تفكر إلا فيه. وقد تحدث إليها الناس من مساء ذلك اليوم بأن آمنة بنت وهب قد خطبت له وستزف إليه عما قريب، فرأى الناس على وجهها جزعا باديا وحزنا عميقا؛ وكانت كثيرا ما تتحدث إلى أترابها بما تجد من حب وما تحتمل من ألم. ولست أنا الذي شبه موقع الفتى من نفسها موقع قطرة الندى من الزهرة، إنما هي صاحبة هذا التشبيه. فقد كانت تقول لصاحبتها عاتكة بنت سهم: أتعرفين كيف تنعم الزهرة حين يمسها الندى إذا أسفر الصبح؟! فكذلك نعمت حين مسني حب هذا الفتى يوم الفداء. وكانت تقول لها: أتعرفين كيف تشتاق الزهرة إلى قطرة الندى إذا ارتفع الضحى واشتد عليها حر الشمس كلما تقدم النهار؟! فكذلك أشتاق أنا إلى هذا الفتى كلما بعد العهد بيني وبينه، وكانت تقول لها: أتعرفين كيف تهيم الزهرة بقطرة الندى إذا أظلها المساء وأقبل الليل، وأحست برد السحر وعرفت أن سقوط الندى قريب؟! فكذلك أنا أهيم بهذا الفتى إذا أشرق الصبح وقرب غدو قريش إلى مجالسها في المسجد، أو إذا اعتدل النهار وآن لقريش أن يروحوا إلى أهلهم. وكانت عاتكة بنت سهم ترثي لها وتشفق عليها، وربما بلغ منها الرثاء والإشفاق أن تسخر منها بعض الشيء، فكانت تقول؛ ويحك يا فاطمة! إنك لمن قوم بداة جفاة فيهم خشونة وغلظة، وما أعرف أن تجار قريش يخافون على أنفسهم وأموالهم في رحلة الشتاء أحدا كما يخافون هذا الحي من خثعم. ولولا خوفهم من هذا الحي، وإكبارهم لبأسه وبطشه، لما أيسر أبوك، ولما كان له هذا المال الضخم، وهذا العدد الكثير من الرقيق والأحلاف، ولما اتخذ لك هذه الدار الأنيقة الواسعة في مكة تقيمين فيها كما يقيم أغنى بنات قريش فكيف نبتت هذه الزهرة الرقيقة الأنيقة في تلك القبيلة التي لا تشتاق إلا إلى الدماء! وكانت فاطمة إذا سمعت هذا الحديث ابتسمت عن نفس حزينة وقالت: ما أشد جهلكم يا أهل المدر بما يظل الوبر من نفوس حية وقلوب رقيقة وأكباد يعبث بها الحب ويعصف بها الغرام.
فلما طال على الفتاة أمر هذا الحب وثقل عليها، رقت لها عاتكة بنت سهم، ورقت لها سلمى بنت خزيم، وقالت لها: أقلي عليك الخطب وهوني عليك الأمر، فليس هذا الفتى إلا غلاما من قريش له رقة قلوبهم وفيه حبهم للحياة وكلفهم بلين العيش. وقد أصهر اليوم إلى بني زهرة، وما أيسر أن يصهر غدا إلى خثعم. وما نحسبك أنك تكرهين أن تكوني زوجه الثانية. وما نحسب أنك تخافين أن تغلبك آمنة على قلبه؛ فقد يكون لآمنة جمالها ومكانها من قريش، ولكن لك جمالك، ومالك، ومكانتك من خثعم. فالرأي أن نجمع بينك وبين الفتى، وأن يحس منك حبا له وميلا إليه، فلعل ذلك أن يغريه بالخطبة. وأي شيء أحب إلى أبيه وإخوته من أن يصهروا إلى عظيم خثعم فيأمنوا شياطينها وشياطين مراد، وهذه الأحياء التي تأخذ عليهم طريقهم إلى بلاد اليمن! وكذلك دبر الفتيات أمرهن وجعلن يرصدن للفتى إذا غدا ويرصدن له إذا راح، حتى ظفرن به في هذا اليوم.
Неизвестная страница