На полях биографии

Таха Хусейн d. 1392 AH
171

На полях биографии

على هامش السيرة

Жанры

وكان هؤلاء النفر جماعة من نصارى الروم دفعوا إلى بعض أطراف الصحراء، وعدت عليهم بعض القوافل فاتخذتهم تجارة، وتقلبت بهم أحوال الرق حتى انتهوا إلى ملك جماعة من سادة قريش. وكان «لسياس» أنقاهم ضميرا، وأصفاهم قلبا؛ وأعظمهم حظا من الدين. وكان لهذا كله أصبرهم على ما ألم به من كرب، وأحسنهم احتمالا لما سلط عليه من محنة، وأعظمهم رضا بهذه النكبة التي كان ينظر إليها على أنها اختبار له، وابتلاء لإيمانه، وامتحان لثقته، وتهيئة لنفسه لتحيا حياة السعداء إذا انقضت إقامتها في هذا العالم الشقي البغيض. ولكنه أظهر في تلك الليلة غير ما تعود أن يظهر لأصحابه من الجلد والصبر، ومن الإباء والاحتمال. وهم يعزونه ويرفقون به في العزاء. وهم يلومونه ويعنفون عليه في اللوم. وهم يأتون نفسه من جميع أنحائها يريدون أن يصرفوها عن هذا الحزن العميق، وأن يصرفوا عنها بعض الهم الثقيل، ولكنهم لا يبلغون منه شيئا ولا يزيدونه إلا إغراقا في الحزن وغلوا في اليأس. وربما بلغوا بأحاديثهم قرارة نفسه فأثاروها ودفعوه إلى الحديث، فإذا هو يتكلم بكلام تقطعه العبرات وتبلله الدموع.

وكان «لسياس» ملكا لصفوان بن أمية، وكان قد أنفذ في ذلك اليوم أمره في أسير من أسرى الأنصار يقال له زيد بن الدثنة، دفعه إليه صفوان وأمره أن يخرج به من الحرم، حتى إذا بلغ به التنعيم قتله ثم عاد. ولم يكن مثل هذا العمل يحبب إلى «لسياس»، ولكنه لم يكن خليقا أن يدفعه إلى مثل هذا اليأس المهلك، لولا أنه عرف عن أمر أسيره وصريعه ومن أمر أصحابه ما عرف، ولولا أنه عرف من أمر زيد ما رأى، وسمع من أمر خبيب ما سمع، وانتهت إليه أحاديث أولئك الذين أدركهم الموت قبل أن يحملهم إلى مكة ويبيعهم لقريش غدر الغادرين من هذيل. ولكنه عرف ما عرف، ورأى ما رأى، وسمع ما سمع، فذكر أمورا كان يقرؤها في الكتب، وأحداثا كان يهلع لها حين يسمع أنباءها من الوعاظ.

ذكر أولئك الشهداء الذين قتلوا في المسيحية تقتيلا، والذين امتحنوا بما كتب الله عليهم من ضروب المحن وفنون الكيد، فلم تضعف نفوسهم، ولم تهن عزائمهم، ولم يفرطوا في دينهم، ولم يجد الشك إلى نفوسهم سبيلا.

ذكر أولئك الشهداء الذين أقاموا مجد المسيحية على أشلائهم، وغذوه بدمائهم، وقووه بضعفهم، وأعزوه بما احتملوا في سبيله من الذل، وأيدوه بما لقوه في سبيله من الأذى والآلام. ذكر أولئك الشهداء الذين كان يكبرهم ويجلهم، ويرى أنهم شفعاؤه وشفعاء أمثاله عند الله، وأنهم قدوته الصالحة وأسوته الحسنة ومثله الأعلى، وأنه أسعد الناس لو استطاع أن يظفر ببعض ما ظفروا به من عذاب الدنيا ونعيم الآخرة، ومن ذل الدنيا وعز الآخرة، ومن هذا الموت الهين السريع الذي تتبعه حياة باقية سعيدة متصلة لا حد لما فيها من نعيم.

ذكر هؤلاء الشهداء، وذكر أنه لم يزد حين أطاع أمر مولاه صفوان على أن قتل واحدا منهم، واقترف ذلك الإثم الذي اقترفه الظالمون الذين اضطهدوا الشهداء وفتنوهم، ثم قدموهم قربانا إلى آلهتهم وأوثانهم في الزمن القديم. هنالك اضطربت نفسخ اضطرابا، وزلزل قلبه زلزالا، ورأى حياته كلها وقد استحالت إلى شر منكر، ورأى ما قدم من الخير وقد استحال إلى فساد، ورأى ما احتمل من الآلام وقد أصبح هباء. وهنالك ملك الندم عليه أمره، وملأ اليأس عليه قلبه، وعجز أصحابه عن أن يمسوا نفسه بما كانوا يقدمون إليه من تسلية أو عزاء.

على أنه لم يكن يحس في نفسه شيئا من الموجدة على مولاه صفوان، ولم يكن يضمر له شيئا من البغض، إنما كانت موجدته كلها وحقده كله قسمة بين نفسه وبين امرأة من قريش، هي سلافة بنت سعيد بن سهم زوج طلحة بن عبد الله بن عبد العزى.

كان واجدا على نفسه أشد الموجدة، مبغضا لها أشد البغض؛ لأنها أثمت بقتل هذا الرجل الشهيد. وكان حانقا على سلافة حاقدا عليها؛ لأنها هي أصل هذا الشر، ومصدر هذا الإثم، ومنشأ هذا البلاء. وكان يقول لأصحابه: «لولا أن هذه المرأة الآثمة نذرت ما نذرت، وأذاعت ما أذاعت في أهل البادية، لما دفع صفوان إلى ما دفع إليه، ولما ظفر صفوان بما ظفر به، ولما اشترى أسيره، ولما أنفذت أمره فيه.»

قال أصحابه: «وما نذر سلافة! وماذا أذاعت في الأعراب؟»

قال: «أتذكرون يوم حشدت قريش لحرب صاحبها في يثرب كيف كان أشراف مكة موتورين يأكل قلوبهم الغيظ، وتملأ نفوسهم الحفيظة، وتضطرب أمامهم أشباح الخزي! يذكرون هزيمتهم حين لقوا صاحبهم لأول مرة ففعل بهم الأفاعيل، وترك من أشرافهم صرعى لم يثوبوا إلى أهلهم ولم يستمتعوا بتجارتهم تلك الرابحة التي أنقذها أبو سفيان. ويشفقون أن يتراءى لهم الموت فلا يثبتوا له ولا يقدروا على النظر إليه فيفروا منهزمين، كما فروا من قبل، ويتركوا صرعى من أشرافهم كما تركوا مثلهم من قبل. هنالك أجمعوا أمرهم على أن يتقووا بالنساء ويتقوا بهن الهزيمة والعار؛ فاختاروا منهن أعلاهن قدرا وأرفعهن شأنا وأنبههن ذكرا وأقدرهن على دفع الرجال إلى غمرات الموت. وكانت سلافة بين هؤلاء النساء، خرجت مع زوجها وبنيها الثلاثة، وعادت مع المنتصرين أيما ثكلى قد فقدت زوجها وفقدت بنيها.»

ثم سكت «لسياس» كأنما يستحضر هولا يروع النفوس ويخلع القلوب. ثم عاد إلى حديثه في صوت هادئ بعيد فقال: «إن كانت لوقعة مروعة حقا تلك التي كانت عند يثرب! لقد عادت قريش تتحدث بالأعاجيب. لقد عادت تتحدث بالإخوان يسعى بعضهم إلى بعض بالموت. لقد عادت تتحدث بالأمهات يدفعن أبناءهن إلى أن يقتل الرجل منهم أخاه. لقد عادت تتحدث بأم مصعب بن عمير وقد قتل ابنها مصعب، فما كانت لتظهر عليه حزنا أو جزعا لأنه كان من خصم قريش وأصحاب محمد. لقد عادت قريش منتصرة تتحدث بأمر سلافة هذه وقد فقدت زوجها وتلقت ابنيها أحدهما بعد صاحبه يبلغها وقد أصابه السهم، فتضع رأسه على حجرها وتسأله: يا بني من أصابك؟ فيقول ما أدري، ولكني سمعت قائلا يقول: خذها وأنا ابن الأقلح، ثم أصابني السهم. يقول ذلك ثم يجود بنفسه بين ذراعيها. هنالك نذرت سلافة: لئن قدرت على قاتل ابنيها لتشربن في قحف رأسه الخمر. وهنالك أذاعت في أهل البادية وأعراب الحجاز أن من جاءها برأس ابن الأقلح هذا فله مائة من الإبل. هذا أصل الشر، وهذا مصدر البلاء.»

Неизвестная страница