وكتم الفتى إسلامه دهرا مخافة أن تفتنه قريش، أو تنكره أمه، وكان لها محبا وعليها شفيقا، وكان حريصا على ألا يؤذيها، ولعله كان حريصا أيضا على ألا تنقطع معونتها له وبرها به؛ فقد كان يجد من هذا البر وتلك المعونة ما ينفع به نفرا من أصحابه وإخوانه في الدين. ولكن عثمان بن طلحة رآه ذات يوم وهو يصلي، فما أسرع ما سعى به، ودل عليه! وما أسرع ما تنكرت قريش للفتى! وما أسرع ما تنكر له أبواه! وما أسرع ما مسه الضر وثقل عليه احتمال الحياة! هنالك أصبح هذا الفتى السعيد كغيره من أصحابه فقيرا بائسا، ولكنه كان كغيره من أصحابه صبورا جلدا، يجد في الإسلام عما يلقى عزاء وتسلية. حتى إذا اشتد الأمر بالمسلمين وأذن النبي لهم في الهجرة إلى بلاد الحبشة، هاجر معهم فأقام ما أقام، واحتمل ما احتمل، ثم عاد فأقام مع النبي ولزمه. وضاقت الأرض بالمسلمين مرة أخرى، فكانت الهجرة الثانية إلى بلاد الحبشة. فهاجر الفتى مرة أخرى، وأقام في تلك البلاد ما أقام، واحتمل في تلك البلاد ما احتمل. وكأن صبره عن لزوم النبي لم يكن ميسورا، فآثر احتمال الأذى في نفسه بقرب النبي على الأمن والسلامة بعيدا عنه. فعاد إلى مكة سيئ الحال قد مسه الضر واشتد به البؤس، فرثت ثيابه حتى ما كانت تستر جسمه إلا في مشقة وبعد حيلة واسعة، وغلظ جلده وتخدد وقد كان سبطا رقيقا. وأقبل ذات يوم على النبي وأصحابه. فلما رآه المسلمون نكسوا رءوسهم وغضوا أبصارهم رحمة له وحياء من العجز عن معونته. وسلم الفتى فرد النبي عليه السلام وأحسن عليه الثناء وهو يقول: «لقد رأيت هذا وما بمكة فتى من قريش أنعم عن أبويه نعيما منه، ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير في حب الله ورسوله!»
ولزم الفتى مجلس النبي فأطال لزومه، واستمع الفتى للنبي فأحسن الاستماع، وحفظ الفتى عن النبي فأتقن الحفظ، وإذا هو من فقهاء الصحابة وأشدهم بالدين علما. ثم تكون العقبة الأولى، ويكتب المسلمون من الأنصار للنبي في رجل من أصحابه يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، فيرسل إليهم النبي مصعبا فيكون أول مبشر بالإسلام كلف نشر الدين خارج مكة.
ويوفق مصعب فيما كلف من الأمر، فإذا الأنصار يقبلون على الإسلام أفواجا، وإذا سماحة خلقه وعذوبة صوته وما يجري فيه من حلاوة الإيمان وشدة الاقتناع، كل ذلك يحببه إلى الناس ويعطفهم عليه. ولا يكاد يدنو موسم الحج حتى يشخص مصعب في سبعين من الأنصار هم أهل العقبة الثانية. وبلغ الفتى مكة، فلم يفكر في أمه ولا في أهله، وإنما مضى قدما حتى انتهى إلى النبي، فخلا إليه وأطال عنده المقام يعلمه علم المدينة وينبئه بأخبارها، والنبي عن ذلك راض وبه مسرور. ويطيل المقام عند النبي، وتعلم أمه بمقدمه، فتبعث إليه من يلومه في هذا الذي تراه عقوقا، ولكنه مع ذلك لا يفكر في لقائها حتى يفرغ من أمره عند النبي. فإذا زارها بعد ذلك لامته في إبطائه عنها ولامته في دينه، واستعانت عليه بدموعها. وما أقوى الدموع عونا للأمهات! ولكن مصعبا قد صبر للشر كله، فليصبر لدموع أمه أيضا. وإذا هو يعظها ويدعوها إلى الإسلام، فتأبى عليه وتنذره أن تفتنه عن دينه، فيلقى نذيرا بنذير وشرا بشر، ويعلن لئن حاول أحد فتنته ليحرصن، على قتل من يعرض له؛ فتدعه أمه، وينقطع لنبيه بعد ذلك فيقيم معه؛ حتى إذا تهيأ النبي للهجرة تقدم مصعب إلى المدينة فانتظره فيها.
3
ويحمل مصعب لواء النبي في وقعة بدر فيعود به ظافرا منصورا. ويلقى مصعب في المدينة من الجهد والفقر ما يلقاه غيره من فقراء المسلمين، فيحتمل ذلك راضيا به باسما له. حتى إذا كانت وقعة أحد تقدم مصعب باللواء بين يدي النبي حتى يجد موقفه من ميدان القتال فيثبت فيه. وتشتد صدمة قريش للمسلمين فينكشفون ويتفرقون عن لوائهم. ولكن مصعبا أثبت قدمه في الأرض، فهو لا يزول ولا يميل. ويقبل عليه ابن قميئة - فارس من فرسان قريش - فيضرب يده بالسيف فيقطعها ويسقط اللواء، فيأخذه مصعب بيده الأخرى ويجنأ
1
عليه. ويكر عليه ابن قميئة فيقطع يده الأخرى، ولكن قدم مصعب ثابتة وهو لا يزول ولا يميل، وما زال اللواء مرفوعا قد ضم عليه مصعب عضديه. ويكر ابن قميئة مرة ثالثة فينفذ الرمح في صدر مصعب، ويسقط مصعب ويسقط معه اللواء فيتلقاه أخوه أبو الروم. وما يزال اللواء مرفوعا حتى يبلغ المدينة.
2
4
وقد انجلت قريش منتصرة عن ميدان القتال، وثاب المسلمون إلى الشهداء يوارونهم في قبورهم، فإذا مصعب قد خر على وجهه. ويهم المسلمون بدفنه فلا يجدون له كفنا، إنما هو ثوب رث قصير، إن أخفى رأسه أظهر رجليه، وإن أخفى رجليه أظهر رأسه، والنبي
Неизвестная страница