На полях биографии

Таха Хусейн d. 1392 AH
167

На полях биографии

على هامش السيرة

Жанры

ساءت فينا سيرة السلطان فنقمنا من نظام الحكم. وساءت فينا سيرة القسس فشككنا في الدين. فأما العاجزون فقد أعطوا طاعة ظاهرة وأضمروا عصيانا خفيا وعكفوا عن اللذات يستعينون بها على احتمال الحياة. وأما الأقوياء وأولو العزم فقد فكروا وقدروا، وجدوا في التفكير والتقدير يلتمسون فرجا من حرج ومخرجا من ضيق. وكنت فيما رأيت من هؤلاء. فلما ضقت بالحياة في مدينتي ولم أجد عند علمائها وقسسها شيئا، خرجت مسافرا إلى الشام ألتمس في السياحة تسلية وعلما، وأبتغي فيها ظفرا بالخير. ولست أقص عليكما رحلتي إلى الشام ومنازلي في طريقي إليها، واضطرابي في مدنها وقراها، ويأسي من قسسها وعلمائها، وضيقي بسادتها وحكامها، ولكني انتهيت بعد كثير من الاضطراب إلى دير من الأديار يقوم في آخر العمران وأول الصحراء مما يلي بلادكم هذه. وأقمت في هذا الدير دهرا، راضيا عن حياته الهادئة المطمئنة، راضيا عن حياة أهله الآمنين الوادعين الأخيار، ناعم النفس بعشرتهم، مستمتعا بأحاديثهم. ولكنني سمعت من أحاديثهم عجبا: رأيت لهم فيما بينهم أمرا يتحدثون عنه بالرمز، ويومئون إليه بالإشارة. ورأيت حديثهم هذا الرمزي يكثر ويشتد إمعانهم فيه كلما مرت بديرهم قافلة من قوافلكم هذه التي تتردد على بلاد الروم. رأيتهم يعرفون أنباء هذه القوافل قبل أن تصل إليهم، فيتهيئون لها ويستقبلونها ويكثرون من سؤالها ويظهرون الحفاوة بها، ثم يخلو بعضهم إلى بعض، فيتبادلون بينهم أحاديث الرمز والإشارة والإيماء، ويقول بعضهم لبعض: لم يأت النبأ بعد، أو يقول بعضهم لبعض: لقد انقطع النبأ بعد أن جاءت بشائره. فلما كثر علي منهم ذلك أزمعت أن أعلم علمه، فتلطفت لهم وتوسلت إليهم حتى عرفت أنهم ينتظرون إصلاحا دينيا ذا بال، وأنهم قرءوا في كتبهم أن هذا الإصلاح يأتيهم من قبل هذه البلاد، وأنهم حسبوا وقدروا ورأوا أن زمان هذا الإصلاح قد أظل الناس، وأن أنباء قد انتهت إليهم وأحاديث قد نقلت لهم، وكلها يدل على أن أوان هذا الإصلاح قد آن. قصوا علي من هذه الأنباء والبشائر أطرافا، فلم أملك أن كلفت بالرحلة إلى بلادكم، وقلت: ما يمنعني أن أبعد في السفر؛ وما يمنعني أن أتصل بقافلة من قوافلكم هذه فأبلغ معها هذه الأرض، فأعلم من علمها، وأصيب من تجارتها! ولعلي أظفر بما يتحرق إليه هؤلاء الرهبان شوقا. وأنتما تعلمان كيف كان الاتفاق بيني وبين تلك القافلة التي أمنتني على نفسي ومالي، وضمنت لي أن أبلغ بلادكم هذه موفورا فأصيب من تجارتها وأعود معها من قابل إلى الشام، حتى إذا بعدنا عن بلاد الروم وانقطعت أسبابي من أسباب قيصر، عدا أهل هذه القافلة على مالي فاحتجزوه، ثم عدوا علي فاتخذوني وباعوني من صاحبكما ذاك الذي اشتريتماني منه قريبا من يثرب.

فهذا بدء حديثي أيها السيدان. وقد عملت في بستانكما أعواما، وكان الناس يتحدثون من حولي بهذه الأحداث التي تحدث في مكة، ويتناقلون من حولي أنباء هذا الرجل الذي ينكر الأوثان ويدعو إلى التوحيد، ويريد أن ينصف المظلوم من الظالم، والعبد من السيد، ويسوي بين الضعيف والقوي. وكان الناس يتحدثون من حولي بما يلقى هذا الرجل في بلده من شر، وما يمتحن به أصحابه من ألوان الفتنة. وكنت كلما سمعت هذه الأحاديث هششت لها، وطابت بها نفسي، وأحسست أن النبأ الأعظم قريب. وكنت أقدر أن صاحب هذا النبأ يجب أن يكون كإخوانه الذين سبقوه عالما بدين الله داعيا إليه، مخبرا عن أنباء الأولين بما لا يخبر به الناس. وكم وددت لو أتيح لي أن أنحدر إلى مكتكما هذه فأسأل صاحبكما وأسمع منه، ولكن الرق في بلادكما شديد؛ فنحن أرأف منكم بالرقيق وأعطف منكم عليه. وقد لبثت في بستانكما هذا أسمع الأنباء وألتمسها وأتحرق شوقا إلى مصدرها، حتى أقبل صاحبكما هذا منذ حين. ولقد رثيت له حين رأيته وأوشاب الناس من حوله يؤذونه بألسنتهم وأيديهم. ولقد هممت أن أفزع لنصره والذود عنه، وما كنت أعلم من أمره شيئا، ولكنها الرحمة عطفتني عليه. ولقد هممت أن أستأذنكما في إيوائه وإيثاره بشيء من القرى، ولكني رأيتكما تنظران وتتحدثان ولا تنشطان، ثم أمرتماني بالسعي إليه. فلما بلغته سمعت منه كلاما ما سمعت مثله في هذه الأرض. فلما سألته عن ذلك سألني عن موطني، فلما أنبأته به قال: «هذا موطن يونس نبي الله.» فما شككت في أنه صاحبي الذي أقبلت ألتمس أنباءه.»

قال عتبة: «ويحك يا عداس! إن حديثك هذا لعجب، ولكنا نخشى أن يفسد عليك صاحبنا دينك، وإن دينك لخير مما يدعو إليه.» قال عداس: «مهلا يا سيدي؛ إن الذي يقول ما سمعت لا يدعو إلى شر ولا يغري بفساد، ولا يأمر إلا بمعروف، ولا يقول إلا حقا.» قال شيبة: «ويحك يا عداس! لقد سحرك صاحبنا فيمن سحر. فماذا سمعت منه؟» قال عداس: «بل لقد هداني فيمن هدى. ولقد سمعته يناجي ربه بحديث ما سمعت أعذب منه، لقد حفظت حديثه، وإنك لتعلم ما أنا بالعربي، وما حفظ أحاديثكم علي بيسير.» قال عتبة: «فهات أعد علينا ما سمعت.»

قال: سمعته يقول: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني! إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.»

ولم يفرغ العبد من هذا الحديث حتى أغرق في بكاء هادئ، وأغرق سيداه في وجوم عميق. ثم ثاب القوم جميعا إلى أنفسهم، ونظر القرشيان أحدهما إلى الآخر نظرة المستخذي الآسف. ثم قال عتبة لعداس: «أنت وما تشاء يا عداس من حب صاحبك وطاعته. ولكن لا تنس أن لنا عليك حقا وطاعة. وإنا حريصان على ألا تظهر من أمرك شيئا فتضطرنا فيك إلى ما نكره، وتضطر قومنا فينا إلى ما تكره.»

ومضت أعوام وحدثت أحداث، ونظر العبد الشيخ ذات يوم فإذا محمد

صلى الله عليه وسلم

قد ضرب عسكره حول الطائف يحاصر فيها ثقيفا، وكان عداس قد انتقل من ملك ابني ربيعة بعد موتهما إلى الثقفيين، وإذا نفسه تنازعه إلى صاحبه، وإذا هو يحرض الرقيق ويبث فيهم الدعوة إلى الخروج على ساداتهم واللحاق بجيش المحاصرين، وإذا نفر من الرقيق يجتمعون إليه، وإذا هم يقتحمون الأسوار ويهبطون إلى العسكر مسرعين، وترميهم مقاتلة ثقيف بالنبل فتصرع منهم جماعة فيهم عداس، قد مات قبل أن يبلغ صاحبه العظيم، ويخلص سائرهم إلى النبي فيهديهم إلى الإسلام ويردهم إلى الحرية، وينصرف عن حصار الطائف، حتى إذا أسلمت ثقيف تكلمت في رقيقها أولئك وأرادت ردهم إلى الطاعة، فيقول النبي الكريم: «كلا! هؤلاء عتقاء الله.»

الفصل الخامس

مصعب بن عمير

Неизвестная страница