قال النضر: «علمت ذلك من بعض الذين صبوا إليه واستجابوا له. ألم يحدثني أخو جمح عثمان بن مظعون أنه قد جلس إليه، فبينما هو جالس معه إذ رآه يرفع رأسه إلى السماء ثم ينحرف عنه ساعة ثم يعود إليه. فلما أنكر عليه ذلك قال له: إن الملك قد نزل علي من السماء فأوحى إلي أمر الله. فلما سأله عن أمر الله هذا، تلا هذا الكلام الذي حفظه عثمان واستجاب له، وحفظته أنا ولم أستجب له، ولكن في نفسي منه شيئا.»
قال عمرو بن هشام، وقد ذكر في سرعة غريبة أن صاحبه أبا مرة لم يستطع أن يتلو عليه شيئا مما كان يوحي إلى محمد، وإنما عجز عن ذلك وتضاءل له وأدركه منه رعب شديد. قال عمرو بن هشام: «فاقرأ علينا يا نضر ما سمعت وحفظت.» فتلا النضر هذه الآية:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون . قال الوليد وقد سمع القوم فأعجبوا وأطرقوا برءوسهم إلى الأرض: «صدق والله محمد وبر. أقسم ما جاء قومه إلا بخير. ماذا تنكرون من هذا؟ وهل فينا من لا يحب العدل والإحسان! وهل فينا من يكره إيتاء ذي القربى! وهل فينا من يحب الفحشاء والبغي! أما والله لو جاء محمد قومه بمثل هذا دائما لكان أعطف قومه عليهم وأرأفهم بهم وأهداهم إلى سبيل الخير.»
قال عمرو بن هشام في شيء من الحدة يريد أن يكظمه: «ويحك يا عم! لقد كنت تأمرنا آنفا ألا نعجل في أمر محمد حتى نستبينه، فإني أراك تعجل في أمره قبل أن تستبينه! إنك لم تسمع من أمره إلا ما حدثنا به النضر، ولو قد سمعت من أمره ما سمعت أنا لقلت فيه غير ما تقول الآن.»
قال الوليد: «ماذا سمعت يابن أخي؟» قال عمرو: «سمعت أنه جاء بما يفرق به بين المرء وزوجه، وما يفرق به بين الأب وابنه، وما يفرق به بين المرء وأخيه، جاء بالمساواة بين السيد والعبد، وبين القوي والضعيف، وبين الغني والمعدم، بل جاء بما يلقي في روع الضعفاء والأذلة من الناس أنهم خير من ساداتهم وأرفع منهم عند الله مكانا، بل جاء بما يلقى في روع الناس أن ليس لهم إلا إله واحد يجب أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأن آلهتنا هؤلاء الذين هم وسطاؤنا عند الله باطل لا يملكون لأنفسهم ولا يملكون لنا نفعا ولا ضرا. أفيعجبك هذا يا عم؟!»
قال الوليد وقد ملكه رعب شديد شاع في غيره من الملأ وقد رفع يديه فجعلهما أمام وجهه كأنما يحتمي بهما من هول ما سمع: «أما هذا فلا» يقولها ثلاثا، ويقولها الملأ معه كلما قالها.
قال النضر: «فروا رأيكم يا معشر قريش! فقد جاءكم ابن عبد المطلب بأمر عظيم.»
قال عمرو بن هشام: «وأي رأي تريد أن نرى؟ إنه والله الهول ، فإن لم نغلبه غلبنا. والله لنأخذن عليه الطريق، ولنسدن عليه المسالك، ولنحمين منه دين قريش وسلطانها وسيادتها على العرب.»
قال الوليد: «هو ذاك يابن أخي، ولكن لا تعجلوا على صاحبكم وانتظروا به حتى يبين لكم أمره جليا.»
قال عمرو: «ننتظر به حتى يفسد علينا أمرنا، وحتى نحاول الإصلاح فلا نجد إليه سبيلا! لا والله لا نظرة ولا إمهال، وإنما هو السعي والاستقصاء منذ الآن، والسؤال عن أمر محمد عند من عرفه من قريب ومن عرفه من بعيد، ومن يلوذ به من أتباعه إن كان له أتباع، ومن يحف به من بني هاشم.»
Неизвестная страница