كلا! لم تكن خديجة مشغولة النفس بأمر العير حرصا على تجارتها، أو شوقا إلى أن تعرف ما صارت إليه من نفاق أو كساد، وإنما كانت مشغولة النفس بابن عمها هذا الشاب الذي أرسلته في تجارتها إلى الشام، فسافر راضي النفس، آمن القلب، وإن الطريق لمخوفة، وإن الخطوب لكثيرة، ولا سيما لو علم الناس من أمر هذا الشاب ما كانت تعلم، وعرفوا من حياته ما كانت تعرف. لقد تذكر خديجة أن عمه الشيخ سافر به إلى الشام صبيا، فلم يلبث أن عاد به إلى مكة مسرعا، شديد الحذر ، عظيم الاحتياط لما خاف عليه من مكر النصارى وكيد يهود. تحدث الشيخ بذلك إلى أصفيائه وخاصته ورهطه الأدنين، فسمعوا له وابتسموا، ثم انصرفوا مشفقين عليه معجبين، يقول بعضهم لبعض: ما نرى إلا أن أبا طالب مسرف في حب ابن أخيه، وما نرى إلا أن هذا الإسراف يكلفه شططا، ويرهقه من أمره عسرا.
ولكن حديث الشيخ انتهى إلى خديجة، فتلقته في شيء من العجب، ثم أقرته في ثني من أثناء نفسها الطاهرة، وفي ناحية من نواحي قلبها الكريم، وأخذت تنظر إلى هذا الصبي اليتيم نظرة فيها الرفق والعطف، وأخذت ترقب هذا الصبي اليتيم في شيء كثير من الحب والبر والحنان، ترعى فيه حق القرابة وتلك المودة التي كانت بينها وبين أمه آمنة، حين كانت هي فتاة غضة ناشئة، وحين كانت آمنة أرأف الناس بها، وأحبهم لها، وأشدهم بها برا وعليها حنوا.
وما أكثر ما فكرت خديجة في أمر هذا الصبي اليتيم! وما أكثر ما همت أن تبر به، وتصنع له المعروف وتسدي إليه الجميل، وترفه عليه وعلى أهله بعض ما كانوا يحتملون من آلام الحياة ويلقون من ضيق العيش. ولكنها لم تكن تجد السبيل إلى ذلك ميسورة ولا ممهدة؛ ففي بني عمها إباء وعزة وارتفاع عن مثل ما كانت تريده لهم من الخير والبر. وفي هذا الصبي اليتيم أنفة وكرامة، وشيء لا تستطيع أن تصوره له ولا أن تحققه، ولكنه يملأ قلوب الناظرين إليه هيبة له، ويردهم عن أن يفكروا في أن ينالوه بما تعودوا أن ينالوا به الفقراء واليتامى من البر والإحسان.
وما أكثر ما كانت خديجة تسأل عن هذا الصبي، وتتبع في حب وبر وحنان نموه وتقدم السن به، واضطرابه في كسب القوت، واحتماله لأثقال الحياة! ولقد أشفقت خديجة على هذا الصبي أشد الإشفاق حين علمت ذات يوم أنه خرج مع عمومته إلى عكاظ، فشهد معهم حرب الفجار، وما أشد ما كان إعجابها به، وما أعظم ما كان اغتباطها حين علمت أنه عاد مع عمومته من حرب الفجار سالما آمنا موفورا، لم يمسسه أذى، ولم ينله مكروه!
وكانت أنباء تبلغ خديجة عن هذا الصبي، أو قل عن هذا الفتى، فتملأ نفسها عجبا، وتدفعها إلى كثير من المساءلة والتفكير. فقد كان يقال لها إن هذا الفتى على حداثة سنه شديد الميل إلى العزلة، لا يشارك أترابه من فتيان قريش فيما يأخذون فيه من فرح أو مرح، وفيما يدفعون إليه من عبث أو مجون! وإنما يلقى الناس بوجه مشرق دائما، مبتهج دائما، ولكنه هادئ مطمئن، ما يزدهيه رضا، ولا يخرجه عن طوره سخط. وكان يقال لها إنه لم يشهد أحد قط هذا الفتى حيث يشهد فتيان قريش جميعا بين حين وحين آخذين في هذه اللذات التي كان يكلف بها الشباب القرشيون، حتى إذا رشدوا وبلغوا سن الوقار ترفعوا عنها، وضنوا بأنفسهم عليها، ورأوها لا تلائم أحلامهم الراجحة ومكانتهم الممتازة. ولم يصرفوا عنها مع ذلك أبناءهم الناشئين، كأنهم يرونها شرا ليس منه بد، وتجربة ليس على الشباب بأس أن يصلوا نارها، وأن يلذعهم لهيبها بعض الشيء.
وكان الناس يعجبون من اعتزال هذا الفتى أترابه إذا أقبلوا على لذتهم تلك ويتساءلون فيما بينهم: ما بال هذا الفتى يمتاز من لذاته، ويسير على حداثة سنه ونضرة شبابه سيرة الكهول الذين ترفعهم رجاحة أحلامهم وسماحة طباعهم عن مثل هذه الصغائر والدنيات؟
وكان يقال لخديجة: إن لهذا الفتى شأنا عظيما يحس الناس ظواهره ولكنهم لا يفهمونه، ولا يتبينون حقيقته ولا جلية الأمر فيه.
لقد كان شائعا في مكة متواترا بين أهلها أن عمه الشيخ رجل سيئ الحال، ضيق ذات اليد، مقتر عليه في الرزق مع كثرة العيال، وأنه مع ذلك لا يشكو بؤسا، ولا يظهر تحرجا بهذه الشدة التي يعانيها؛ لا لأنه رجل من بني هاشم يمتاز بما يمتاز به بنو هاشم من الصبر والكرامة والقناعة وحسن الاحتمال للمكاره والمشقات فحسب، بل لأن في حياته سرا غريبا! فإن ابن أخيه هذا اليتيم «فتى مبارك» كما يقول الشيخ إذا ذكره أو تحدث عنه. ولم يجلس قط مع أبناء عمه إلى طعام إلا شبعوا وأفضلوا من طعامهم مهما يكن قليلا. ولم يجلس بنو عمه من دونه إلى طعام إلا قاموا وهم جياع. وكان أبو طالب يتحدث بأنه إذا رأى أبناءه يقبلون على طعامهم كفهم عنه وقال: كما أنتم حتى يأتي ابني، فينتظرون حتى يأتي الفتى، وهنالك يخلي الشيخ بينهم وبين الطعام فيقبلون عليه، ثم يرفعون أيديهم عنه وكلهم قد شبعوا، وإن في طعامهم لفضلا.
وكانت خديجة تسمع هذه الأنباء كما كان يسمعها غيرها من رجال قريش ونسائها، فتعجب لها كما كان يعجب لها غيرها من رجال قريش ونسائها. ولكنها لم تكن تنساها كما كان ينساها غيرها من قريش، وإنما كانت تضيفها إلى ما كانت تحفظه من أمر الفتى في ثني من أثناء نفسها الطاهرة، وناحية من نواحي قلبها الكريم.
ثم يبلغ خديجة ذات يوم أن جماعة من شيوخ قريش وسادتها وأصحاب الأحلام الراجحة والبصائر النافذة فيها، قد اجتمعوا فيما بينهم فاستعرضوا من أمر الناس ما استعرضوا، وأنكروا من سيرة الناس ما أنكروا، ورأوا أن يلتمسوا لأنفسهم ولقومهم الخير، وأن يجتمعوا فيحدثوا بينهم حلفا على أن يتعاونوا على الخير والمعروف، وإنصاف المظلوم مهما يكن ضعيفا، من ظالمه مهما يكن قويا، وأن يبذلوا في ذلك ما يملكون من جهد، وأن يدوموا على ذلك ما بل بحر صوفة، وأن قريشا قد أعجبت بهذا الحلف أشد الإعجاب، وأكبرت المجتمعين عليه والمشتركين فيه أشد الإكبار، وسمته «حلف الفضول».
Неизвестная страница