قال كبير الأمناء باسما: كذلك تزعم أنت يا خشقدم، فمن أين لي المال أكسب به طاعة الجند ورضا الأمراء؟ وكيف أتوقى طعنة في الظهر من يد سيباي نائب الشام، أو خاير بن ملباي حاجب الحجاب، أو جان بردي الغزالي، وإن كلا منهم ليمد عينيه إلى العرش على حذر وتربص، يريد أن تسنح له فرصة، ثم من أين لي أن آمن عيون طومان باي، تلك التي تنفذ إلى ضمائر الناس فلا يكاد يخفى عليه سر؟
قال خشقدم حانقا: حتى أنت يا أمير تخشى عيون ذلك الفتى؟! لقد صار ذلك الغلام شيئا ...
قال بدر الدين بن مزهر: خل عنك يا خشقدم ...
ثم التفت إلى قايت وأردف قائلا وفي لهجته صرامة وحزم: اسمع يا أمير، إن كان ذلك كل ما تخشاه فقد كفيتك هذه المئونة، أما مال البيعة فعلي أن أبذل لك ما تشاء حتى يرضى الجند والأمراء، وأما سيباي وخاير بك وجان بردي الغزالي، فأرجو ألا يشغلك من أمرهم شيء، بل لعلهم أن يكونوا أطوع لك وأحرص على نفاذ أمرك، فهم اليوم على نية العصيان والثورة، وسيلتقون في الشام على خطة قد أحكم تدبيرها، فإذا رضيت عن تدبيري فستخرج إليهم على رأس حملة تأديبية، ثم تعود سلطانا كما عاد العادل طومان باي، وينتهي أمر ذلك السلطان الشيخ؛ فقد كفاه ما تمتع به من عز السلطنة هذه السنين، وكفى الشعب ما نال من أذاه وشحه، وحرصه على جمع المال ...
قال خشقدم: وأما طومان باي ...
فالتفت إليه بدر الدين مغضبا وهو يقول: دعني وما أريد يا خشقدم!
ثم عاد إلى قايت يتم حديثه: أما طومان باي فإنه في شغل بنفسه وببنت أقبردي عن كل ما هنالك، ولعله في عماية هواه أن يكون لك عينا على عمه، ذاك الذي يريد أن يحول بينه وبين شهددار؛ ليزفه كارها إلى ابنته جان سكر. ولعل خشقدم الرومي أقدر على تدبير هذا الجانب من الخطة؛ فإن له وسائله في قصر السلطان، وبينه وبين طومان باي آصرة!
ثم مال إلى خشقدم يتحبب إليه باسما وهو يقول: أليس كذلك أيها الرومي الفتى؟
قال خشقدم وعلى وجهه مسحة من الرضا: بلى يا سيدي، وسيكون صهري جاني باي الأستادار عونا لي في كثير من الأمر، فإنه ليبغض ذلك الفتى المتغطرس كأن بينهما ثأرا لا يغسله إلا الدم!
كان يوم الخميس الثامن من رجب سنة 909 يوما من أيام القاهرة المشهودة، فقد ازينت المدينة كلها بأمر السلطان احتفالا بدوران المحمل، وكانت هذه العادة قد بطلت منذ بضع وثلاثين سنة، حتى نسيها الناس أو كادوا، ولم يبق منها إلا ذكريات على ألسنة العجائز والشيوخ، يستمع إليها الشباب في لهفة وشوق ... فما كاد الغوري يأمر أمره بالرجوع إلى تلك العادة، حتى شمل مصر كلها فرح غامر، فلم يبق في المدينة على سعتها عجوز ولا شيخ، ولا فتاة ولا فتى، إلا تهيأ لاستقبال ذلك اليوم والاشتراك في ذلك المهرجان، فازدحم النساء والفتيات على سطوح الدور ووراء أستار النوافذ، وزغاريدهن تتجاوب أصداء من شرق المدينة إلى غربها، أما الرجال شيوخا وفتيانا فقد احتشدوا على جانبي الطريق كتلا متراصة، وامتلأت بهم الدكاكين وشرفات الدور، حتى استؤجرت أسطح البيوت والمصاطب والشرفات بالثمن الربيح، وانثالت وفود المصريين من الخانكاه وبلبيس، ومن قريب ومن بعيد؛ لتشهد ذلك اليوم الفريد، وبلغ الزحام غايته كأن المدينة كلها في عرس. على أن ساحة الرملة - حيث يطل السلطان من شرفته بالقلعة على الرماحة، وهم يعرضون فنونهم ويعتركون بالرماح بين يديه في براعة وخفة - كانت أشد ميادين القاهرة زحاما وأكثرها اكتظاظا بالخلق . وفي انتظار ساعة العرض احتشد العامة راقصين يغنون أغنيتهم التي صنعوها احتفالا بهذا اليوم، والنساء من وراء الأستار يغنين معهم:
Неизвестная страница