وأسفت القاهرة كلها على ما نال علي بن رحاب أسفا بالغا، ولكن ذلك الأسف البالغ الذي شمل المصريين جميعا، لم يكن له إلا مظهر ضئيل في غارات فتيان الزعر للفتك والسفك وترويع الناس في باب اللوق، وبولاق، والحسينية، وسوق مرجوش، ليلة وليلة أخرى، ثم عاد الهدوء والاستقرار ... وعاد المصريون ينتظمون حلقات في مجالي السمر، وفي رحاب المساجد، وعلى أبواب الدكاكين، يقصفون ويتفكهون، ويستنبطون من كل نازلة تنزل بهم فكاهة ونادرة وضحكا عريضا ...
طائفة قليلة من أولاد البلد هي التي أثرت فيها نكبة علي بن رحاب أثرا بعيدا، هي زمرة جمال الدين السلموني الشاعر، وتقي الدين بن محمود «سباب الأنام» وأصحابهما ... أكان ذلك لأنه مصري منهم قد نالته يد السلطان الجركسي بالقسوة والبطش؟ أم لأنهم فقدوا من بعده مثل مجلسه ولم يستمعوا إلى مثل غنائه؟ ليس يدري أحد ... ولكن الحقيقة المؤكدة أنهم ظلوا يذكرونه زمانا في حزن وانكسار ولهفة.
الفصل الثاني عشر
خضاب العروس
لم تكد مصرباي - أرملة السلطان الناصر - تغادر القلعة بعد مصرع زوجها، حتى صعدت إليها ثانية في زفة سلطانية، وعادت زوجا للسلطان الظاهر قنصوه الخال ... ولكنها في هذه المرة تحس قلقا لا تعرف مأتاه ... ها هي ذي تعود إلى قصر القلعة سلطانة كما تمنت، وها هو ذا زوجها السلطان الشاب لا تكاد تنقطع خطاه بين قاعة العرش وغرفة زينتها، ولا تزال تسمع خفق أقدامه ذاهبا وآيبا، وهي جالسة إلى مرآة زينتها قد وقفت من ورائها جاريتها، وانطبعت على المرآة صورتان.
ألم يكن هذا هو كل ما تحلم به؟ فمن أين لها القلق والضجر، وخفق القلب واختلاج العين، كأنها تتوقع أن تحل بها كارثة؟ ألأن عدوتها أصل باي - حظية قايتباي، وأم الناصر، وأخت الظاهر قنصوه زوجها - لم تزل تقيم في القصر؟ وماذا عليها من هذا؟ أم لأنها رأت اليوم - وبعد سنين - صديقها القديم خاير بن ملباي وقد عاد من سفارته في بلاد الروم؟ وما لها ولخاير اليوم وقد بلغت مأملها؟! أم لأن جانبلاط أمير الشام قد عاد إلى القصر ليكون كبير الأمناء لزوجها الظاهر قنصوه، وهو صديق عدوتها اللدود أصل باي؟ وماذا يعنيها من جانبلاط وإن كان كبير الأمناء وصديق عدوتها اللدود أصل باي؟ أم هي في قلق وهم منذ لحظت تلك الصلة الوثيقة الخفية بين الدوادار الكبير طومان باي وكبير الأمناء جانبلاط، وما يجتمع مثلهما إلا على شر وتدبير غادر، أليس هذا الدوادار هو الذي قتل زوجها الناصر، وكان أميرا من أمرائه ورقيقا من مماليك أبيه قايتباي؟ ثم أليس جانبلاط هذا هو الذي كان صديقا من أوفى أصدقاء سلفها أقبردي، فلما دارت عليه الدائرة قلب له ظهر المجن، وتخلى عنه لينضم إلى أعدائه، ثم هو اليوم صديق أصل باي ولا تزال جاريته تروح بينهما وتغدو، ولا يكاد السلطان يشعر بما بين أخته وكبير أمنائه ... فما هذه الصلة الوثيقة الخفية بين الرجلين، وإن لهما في الغدر تاريخا طويلا؟ أتراهما يدبران أمرا للإيقاع بزوجها، أم تلك كلها أوهام وهواجس وأباطيل؟ فما هذا القلق والضجر وخفق القلب واختلاج العين، كأنما يريد القدر أن ينذرها بكارثة من وراء الغيب؟
وسمعت وقع أقدام وراء الباب، فأرهفت أذنيها، ليست هذه خطوات الظاهر قنصوه، ودخلت جارية تؤذنها بمقدم قريبتها شهددار بنت أقبردي.
لتدخل.
ما أحراها أن تجد في صحبتها روحا ومسرة وفرجا من ضيق!
والتقتا على شوق، وخرجت وصيفة السلطانة لتدع لهما أن ينعما بخلوتهما هادئتين، وجلستا تتحدثان ...
Неизвестная страница