فسرت همهمة بين المريدين، وكأنما هموا جميعا أن يجيبوا، ثم سكتوا، وقال أرقم: أظن سيدنا الشيخ يعلم ما أصاب أخانا جلال الدين ...
قال الشيخ: تعني تلك الحادثة؟
قال: نعم، فهو منذ فقد زوجته لا يأنس إلى أحد من الناس، ولا يرى إلا على باب دكانه مطرقا لا يكاد يرفع رأسه، أو ماشيا في الطريق بين داره ومتجره صامتا لا يتحدث إلى أحد، وفي يديه ابنتاه الصغيرتان يصحبهما غاديا أو رائحا، أو قابعا على باب دكانه، وإنه لدائم الفكر والتذكر حتى لأخشى يا سيدنا الشيخ أن يختلط عقله!
قال الشيخ: مسكين! ولكن الصبر أجمل به!
وكان جلال الدين هذا رجلا من مساتير التجار ، له ضيعة ودار ووفر من المال، وله زوجة واحدة يحسده على جمالها كل ذي عينين، ويغبطه على محبتها كل ذي قلب ... وقد أنجبت له ابنتيه هاتين، وعاشت له ولابنتيه وعاش لها، وكانت أيامهما شهدا خالصا ليس فيها مرارة ... وفجأة حلت به الكارثة، وجاءه الصريخ في دكانه ليدعوه إلى داره ذات مساء، فذهب ليشهد زوجته ذبيحا تتشحط في دمها، وابنتاها عند رأسها تبكيان ... وكان الذي ذبحها هو السلطان الناصر نفسه، بسيفه، بيده ... رآها، فطمع أن ينالها، فأرسل إليها رسوله، فلما تأبت عليه سعى إليها على قدميه ... وحاولت أن تفر بعرضها فأدركها ... وعاد من حيث أتى في كوكبة من مماليكه وجنده ... بل لعله لم يعد إلى قصره في ذلك اليوم إلا بعد أن أتم جولته في المدينة، وخرج من دار إلى دار إلى دار، وتناول من كل كأس جرعة!
مسكين جلال الدين! ولكن الصبر أجمل به!
قال رجل من أقصى المجلس: يا سيدنا الشيخ، هذا والله ما لا صبر عليه! وقد بلغ هذا السلطان الصبي من الطيش والنزق والجرأة على الله مبلغا بعيدا، وإن السكوت على مثل هذا لإثم في ذات الله!
قال الشيخ: نعم، ولكن ماذا تملك أن تفعل؟
قال الرجل الذي إلى جانبه: نملك أن نجود بأرواحنا، وما حرصنا على الحياة وهؤلاء المماليك يسوموننا ألوانا من العذاب، لا ينظرون إلينا إلا كما ينظر الناس إلى السائمة، ليس لهم منها إلا درها أو لحمها! وقد جف الضرع وذاب الشحم واللحم!
فابتسم الشيخ مشجعا، ثم قال: أفلح إن صدق ...
Неизвестная страница