ثم عاد يونس الرومي ينبئ السيد وغلاميه أنه قد هيأ لهم الفراش للنوم.
ومضى الثلاثة في أثر يونس إلى غرفتهم فأغلق عليهم بابها، وعاد إلى غرفته وهو يهمس لنفسه: ويل له! ترى من أين اختطفهما، وماذا خلف وراءه من حسرات!
كان جقمق الأشرفي تاجر الرقيق من نزلاء خان يونس في تلك الليلة، وكان رجلا كثير الرحلة بين مصر والشام وبلاد الروم؛ ليتسوق المماليك، وكان له مكان ملحوظ في بلاد السلطان الأشرف قايتباي صاحب مصر لذلك العهد، فقد كان الأشرف حريصا على أن يزيد عدد مماليكه؛ ليكون له منهم جيش قوي يرد به عادية الأمراء الذين ينافسونه على العرش في داخل بلاده، ويدفع به عن مملكته عدوان المغيرين من أمراء البلاد المجاورة، وكان ملك قايتباي يمتد من صحراء ليبيا إلى حدود بلاد الروم شرقا وغربا، ومن بحر الروم إلى حدود اليمن وما وراءها جنوبا وشمالا، على أنه لم يكن يخشى أحدا من أمراء البلاد المجاورة خشيته ابن عثمان ملك الروم، من أجل ذلك كان دائما على الأهبة، فلم يكن له هم إلا زيادة جيشه بما يجلب له التجار من المماليك الذين يتسوقونهم من بلاد المشرق، أو يظفرون بهم من سبي الروم والفرنجة. وكانت وظيفة «تاجر المماليك» في ذلك العهد وظيفة رسمية من وظائف الدولة، لها إقطاع يساوي إقطاع بعض أمراء البلاط! وكان جقمق هذا واحدا من أولئك التجار الذين يركن إليهم قايتباي فيما يريد من هذا السبيل، وكثيرا ما باعه من جلبانه غلمانا رقي بهم السعد حتى بلغوا مرتبة الإمارة في البلاط ...
على أن جقمق في هذه الرحلة لم يكن قد وفق إلى شيء يطمع أن يحوز به رضا السلطان، فلم يقع له في رحلته إلا غلام رومي اسمه خشقدم. وهو فتى فيه مخايل من ذكاء وفطنة، وفيه خبث وتدبير وكيد، وله إرادة وعزم ... ولكنه غلام واحد ...
فلما أشرق الصبح، التقى في بهو الخان أبو الريحان الخوارزمي وجقمق الأشرفي، ووقعت عين التاجر على الفتى والفتاة فرأى صيدا سمينا ... فما كانت إلا صفقة يد، حتى انتقل طومان ومصرباي من يد نخاس خوارزم إلى ملك جقمق الأشرفي ... ومضى كل من الرجلين في سبيله!
لم تكن الأمور في ذلك الوقت بين بايزيد العثماني والأشرف قايتباي سائرة على نهج الصفاء والمودة؛ فإن كلا منهما ليتربص بصاحبه غرة يناله بها أو ينال منه، ولم يكن خافيا على ابن عثمان أن عدوه قايتباي إنما يتكثر بهؤلاء المماليك المجلوبين ليتهيأ لحرب الروم بالعدد الجم، فمنع تجار الرقيق المصريين أن يمروا ببلاده، ورسم لجنده أن يقبضوا على كل تاجر منهم يظفرون به في بلد من بلاد الروم، وكان أولئك التجار يعرفون ما ينتظرهم لو دخلوا بلاد الروم، ولكن ذلك لم يصدهم عما أرادوا، ومن أين لهم أن يظفروا بمثل المماليك الذين يجتمعون لهم من طريق بلاد الروم، من أبناء الروم أنفسهم، أو من الجركس والتركمان؟ من أجل ذلك لم يكن لينقطع وفود هؤلاء التجار إلى بلاد ابن عثمان ملك الروم، فمنهم من يعود ظافرا، ومنهم من تقع عليه عين السلطان فيساق إلى الاعتقال، فما كاد جقمق الأشرفي يخرج بغلمانه من خان يونس، حتى بصر به جند السلطان بايزيد، فسيق إلى الأسر، وسيق معه جلبانه الثلاثة: طومان، ومصرباي، وخشقدم. وارتد إلى العبودية السيد وعبيده!
الفصل الثالث
جاه العبيد!
جلس الأشرف قايتباي على عرش مصر بضعا وعشرين سنة، وبلغ الشيخوخة ولم يزل ولده محمد صبيا لا يصلح لولاية العهد كما يأمل أبوه. على أن وراثة العرش لم تكن أمرا مألوفا في مصر لذلك العهد، وما كانت ولاية قايتباي نفسه عرش مصر وراثة عن أب أو جد، فما هو إلا مملوك اشتراه سيده بخمسين دينارا، فلم يزل يرقى به السعد درجة بعد درجة حتى بلغ أسمى مناصب الدولة، ورفعته مواهبه للعرش حين خلا العرش من سلطانه، فتولاه كما تولاه كثير ممن سبقه من سلاطين المماليك: كلهم أرقاء لا يعرف لأكثرهم آباء ولا أمهات، قذفتهم المقادير إلى تلك البلاد التي تصنع السلاطين فصنعتهم سلاطين، ومنهم من فكر في أن يجعل العرش وراثة في ولده، ولكن التاريخ لم يكتب لواحد من أولئك الذين تولوا العرش وراثة عن آبائهم النجاح الذي يجعل توريث العرش فكرة ذات قرار ...
فلما بلغ السلطان قايتباي ما بلغ من العمر وعرقته الشيخوخة، راح كل واحد من أمراء المماليك يفكر في العرش، ويهيئ أسبابه للوثوب إليه. وقد اجتمع في عصر قايتباي طائفة من أمراء المماليك لم يجتمع مثلهم لسلطان من سلاطينهم، فكان اجتماعهم قوة لقايتباي في أيام قوته وعنفوانه، وضعفا في أيام ضعفه وهوانه!
Неизвестная страница