لقد كان أركماس فتى عزيز الجانب، جريء القلب، عارم الخلق، لا يصبر على دنية ولا ينام على ثأر، وكذلك كان أبوه، ولكن أباه قد مات منذ سنين: كان في بعض المعارك فأصابته طعنة في ظهره فأردته قتيلا، وفر قاتله بدمه تحت الليل في ركاب قافلة من تجار الرقيق، وكان أركماس وقتئذ صبيا لم يبلغ الحلم، ولكنه أقسم أن يثأر لأبيه من قاتله أينما كان، وأن يناله ولو كان سلطانا على العرش ... وترادفت السنون ولم يزل أركماس يتربص لقاتل أبيه ويتقصى أخباره، حتى عرف أين يجده، فودع زوجته وخرج لوجهه فلم يعد ...
ترى أين هو الساعة؟ أفي الأحياء هو أم في الموتى؟ وماذا رد زوجته الليلة إلى ذكراه بعد تلك السنين؟
وتململ الغلام في فراشه، وفتح عينيه وتثاءب، والتقت عيناه بعيني أمه، وبادلها ابتسامة بابتسامة، ثم نهض إليها وطوقها بذراعيه، وطبع على خدها قبلة، وطبعت على جبينه مثلها.
وسمعت الأم في سكون الليل نباح كلب، فنهضت في خفة وأزاحت ستر الخيمة، وخرجت إلى الخلاء تتفقد غنماتها الجاثمة على مقربة تجتر. وعاد طومان فأوى إلى فراشه ثم أغفى ...
وكان نسيم السحر عطرا نديا، وقد عم الظلام وانتشر، فلا ضوء إلا ما ترسله هذه النجوم المرصعة في السماء، كأنها عيون تنظر من فروج الخباء!
وغابت نوركلدي قليلا عن ولدها ثم عادت، ولكنها لم تجد فتاها حيث كان، وكان فراشه لم يزل دافئا، فهتفت في قلق: «طومان!» ولكن طومان لم يجب أمه، وكررت النداء فلم يجبها إلا الصدى، وصرخت ...
واستيقظ رجال ونساء في الخيام القريبة، وتراكضت الأقدام في الطرق الملتوية بين مضارب العشيرة. وكان يتردد في الجانب الآخر من الحي صراخ واستغاثة أخرى، وذهبت طائفة من الناس هنا وطائفة هناك، وقال بعضهم لبعض في قلق وغيظ: نخاس!
وضمت كل أم وليدها إلى صدرها، فلو أطاقت لردته إلى بطنها جنينا، وانبث الرجال بين المضارب يتحسسون مواضع خطاهم، ويتعارفون بكلمة السر، يرجون أن يعثروا بذلك الغريب الذي اقتحم عليهم مضاربهم في هدوء الليل ليسترق أطفالهم ... ولكن ذلك الطارق الغريب قد اختفى أثره فلم يقف له أحد على خبر، وكأنما أعجلته صرخات الاستغاثة فلم يظفر من غارته تلك إلا برأسين اثنين: طومان ابن نوركلدي، ومصرباي بنت جركس، أما مصرباي فطفلة يتيمة لا أم لها ولا أب، وإنما تعيش في كنف سيدة عجوز من ذوي قرابتها، فليس يشق غيابها على أحد، وإنها لذات جمال وحيلة، فما أحرى ذلك أن يكفل لها من أسباب السعادة ما يهيئها لأن تعيش هانئة في قصر سلطان من سلاطين الروم، أو من سلاطين مصر. وأما طومان فوا حزنا! إنه كل شيء في حياة أمه المسكينة، وهي كل شيء في حياته ... يا للمسكين ويا للمسكينة!
اقتحم عليهم مضاربهم في هدوء الليل ليسترق أطفالهم.
وأصبح الناس وليس لهم حديث إلا أخبار أولئك النخاسين الغلاظ، الذين يطرقونهم حينا بعد حين، فيسترقون بنيهم وبناتهم، ويمضون بهم موفورين لا يعترض سبيلهم أحد؛ ليبيعوهم في أسواق حلب أو دمشق أو القاهرة!
Неизвестная страница