فقال متماديا في الهدوء: إني طفل يحبو في رحاب الواحد، وبرعمة تتفتح في حديقته. إني راض بقدره، خادم لأمره. وقد تعطف فتجلى لروحي حتى أترعت بالأنوار، وسالت بالأنغام. ولن أبالي بعد ذلك بشيء!
فقلت بغضب: إن ولي العهد لا يصير فرعون حتى يتوج بين يدي آمون!
فقال باستهانة: بل يتوج تحت نور الشمس في رعاية الخالق الوحيد ...
وافترقنا على أسوأ حال . معي آمون والمؤمنون، ومعه تراث أسرته المجيدة، ومنزلته المقدسة عند رعاياه، وجنونه الذي لا يبالي بشيء. وتوثبت للحرب المقدسة موطنا نفسي على التضحية فداء لإلهي ووطني، ولم أتوان عن العمل لحظة. وقلت لأبنائي الكهنة: فرعون الجديد كافر، عليكم أن تعلموا بذلك، وأن تعلموا الناس به ...
ورغم حماسي وجدتني مسوقا إلى كبح جماح توتو الكاهن المرتل، فاقترحت عليه الانضمام في الظاهر إلى المارق ليكون عينا لنا عليه، ومن ناحية أخرى فلم يتوان الملك أيضا عن العمل، فتم التتويج في رحاب الإله المزعوم، وأصر بتشييد معبد له في طيبة؛ مدينة آمون المقدسة، وراح يعرض دينه على الرجال ليختار معاونيه؛ فأعلن صفوة مصر إيمانهم بدوافع شتى ولهدف واحد، وهو تحقيق طموحهم على حساب عقيدتهم. ولو جاهر الرجال بالعصيان لتغير المصير، ولكنهم سقطوا كالنساء الداعرات. هذا الحكيم آي اعتبر نفسه ضمن الأسرة، فأسكره الجاه وأعماه، وحور محب الجندي الشجاع لم يكن صاحب عقيدة صادقة؛ فكان الأمر بالنسبة إليه مجرد تغيير اسم لا معنى له، أما الآخرون فلم يكونوا سوى منافقين لا هم لهم إلا الجاه والمال. ولولا ارتدادهم عن غيهم في اللحظة الحرجة لاستحقوا القتل. وقد فازوا بالحياة، ولكنني لا أكن احتراما لأي منهم. واشتد التوتر في طيبة، وانقسم الناس بين الولاء لآمون والولاء للمجنون سليل أعظم أسرة في تاريخنا المجيد. وجزعت الملكة الوالدة تيى وهي ترى غرس يديها وهو يتحول إلى نبات سام، وهو ينحدر نحو الهاوية جارا معه أسرته إلى الفناء. وواظبت على زيارة معبد آمون وتقديم القرابين، محاولة تلطيف موجة التمرد العارمة التي تهدد باقتلاع العرش. وجعلت تقول لي: بالولاء تكسبون، وبالتمرد تخسرون ...
وكنت أقول لها: كيف تطالبيننا بالولاء لكافر؟! ليتكم آمنتم بنصائحي!
فتقول لي: علينا أن نطرد اليأس من أفقنا!
لقد ثبت عجزها أمام ابنها المؤنث المدلل، وانهارت قوتها التقليدية حيال قوة جنونه الخفية، ولم يكن مفر من أن نواصل القتال حتى النهاية. من أجل ذلك ضاق المجنون بطيبة، وترامت إلى مسمعه هتافات عدائية في عيد آمون، فادعى أن إلهه أمره بالهجرة إلى مدينة جديدة تشيد من أجله. هكذا أجبرناه على الهجرة مصحوبا بثمانين ألفا من المارقين ليقيموا لأنفسهم سجنا تحل به اللعنة. وخلا لنا الجو لإدارة معركتنا المقدسة، وخلا له الجو للإمعان في الكفر والضلال حتى انقلبت العاصمة الجديدة مدينة للملاهي والسكر والعربدة والفسق التي يبشر بها إله مجهول الهوية، شعاره الحب والسرور! وكلما ألح على المجنون ضعفه الطبيعي غالى في إظهار قوته؛ فأمر بإغلاق المعابد، ومصادرة الآلهة وأوقافها، وتشريد الكهنة. وقلت لأبنائي الكهنة: لا قيمة للحياة بعد إغلاق المعابد؛ فأحبوا الموت.
وقد وجدنا في بيوت المؤمنين مأوى، وفي قلوبهم جيوشا، فواصلنا الجهاد بهمة متصاعدة، وأمل يقترب من الشروق يوما بعد يوم. وتمادى المارق، فقام بزيارات إلى الأقاليم داعيا شعبه إلى الكفر. وشد ما عانى الشعب في تلك الأيام السود من تمزق بين ولائه لآلهته وولائه لملكه الذي أذهلهم بجسمه المتهافت، وطابعه الأنثوي، ووجهه المنفر، وزوجته الجميلة الفاسقة.
تلك كانت أيام الأحزان والعذاب والنفاق والندم والدموع المنهمرة والرعب من غضب الآلهة. وأحدثت رسالة الحب المؤنث آثارها، فاستهتر الموظفون بواجباتهم، واستغلوا الناس أبشع استغلال، وسرى التمرد في أنحاء الإمبراطورية، واستهان بحدودها الأعداء، واستغاث بنا الأمراء المخلصون، فأرسلت إليهم الأشعار بدلا من الجيوش، فقتلوا دفاعا عن إمبراطوريتنا وهم يلعنون الخائن المارق المجنون. وتوقف الخير المتدفق على أرض مصر من جميع البلدان حتى خلت الأسواق، وأفلس التجار، وجاع العباد. وصحت بأعلى صوتي: ها هي لعنة آمون الغاضب تحل بنا؛ فإما القضاء على المارق، وإما الحرب الأهلية.
Неизвестная страница